فصل: تفسير الآيات رقم (18- 24)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 24‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ‏(‏18‏)‏ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ‏(‏19‏)‏ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ‏(‏20‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ‏(‏21‏)‏ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ‏(‏22‏)‏ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ‏(‏23‏)‏ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة‏}‏ هذا تأكيد لما سلف من جملة ‏{‏كل إنسان ألزمناه‏}‏، ومن جملة ‏{‏من اهتدى‏}‏، والمراد بالعاجلة‏:‏ المنفعة العاجلة، أو الدار العاجلة‏.‏ والمعنى‏:‏ من كان يريد بأعمال البرّ أو بأعمال الآخرة ذلك، فيدخل تحته الكفرة والفسقة والمراءون والمنافقون ‏{‏عَجَّلْنَا لَهُ‏}‏ أي‏:‏ عجلنا لذلك المريد ‏{‏فِيهَا‏}‏‏:‏ أي‏:‏ في تلك العاجلة، ثم قيد المعجل بقيدين‏:‏ الأوّل‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏مَا نَشَاء‏}‏ أي‏:‏ ما يشاء الله سبحانه تعجيله له منها، لا ما يشاؤه ذلك المريد، ولهذا ترى كثيراً من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون من الدنيا ما لا ينالون، ويتمنون ما لا يصلون إليه، والقيد الثاني قوله‏:‏ ‏{‏لِمَن نُّرِيدُ‏}‏ أي‏:‏ لمن نريد التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتنا، وجملة‏:‏ ‏{‏لمن نريد‏}‏ بدل من الضمير في «له» بإعادة الجار بدل البعض من الكل‏.‏ لأن الضمير يرجع إلى «من» وهو للعموم، وهذه الآية تقيد الآيات المطلقة كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه قرئ ‏(‏ما يشاء‏)‏ بالياء التحتية، ولا ندري من قرأ بذلك من أهل الشواذ، وعلى هذه القراءة فقيل‏:‏ الضمير لله سبحانه، أي‏:‏ ما يشاؤه الله، فيكون معناها معنى القراءة بالنون، وفيه بعد لمخالفته لما قبله، وهو ‏{‏عجلنا‏}‏ وما بعده وهو ‏{‏لمن نريد‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير راجع إلى ‏{‏من‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ‏}‏ فيكون ذلك مقيداً بقوله ‏{‏لمن نريد‏}‏‏:‏ أي‏:‏ عجلنا له ما يشاؤه، لكن بحسب إرادتنا فلا يحصل لمن أراد العاجلة ما يشاؤه إلاّ إذا أراد الله له ذلك‏.‏ ثم بعد هذا كله فمن وراء هذه الطلبة الفارغة التي لا تأثير لها إلاّ بالقيدين المذكورين عذاب الآخرة الدائم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ‏}‏ أي‏:‏ جعلنا له بسبب تركه لما أمر به من العمل للآخرة وإخلاصه عن الشوائب عذاب جهنم على اختلاف أنواعه ‏{‏يصلاها‏}‏ في محل نصب على الحال أي‏:‏ يدخلها ‏{‏مَذْمُومًا مَّدْحُورًا‏}‏ أي‏:‏ مطروداً من رحمة الله مبعداً عنها، فهذه عقوبته في الآخرة، مع أنه لا ينال من الدنيا إلاّ ما قدره الله سبحانه له، فأين حال هذا الشقيّ من حال المؤمن التقيّ‏؟‏ فإنه ينال من الدنيا ما قدّره الله له وأراده بلا هلع منه ولا جزع، مع سكون نفسه واطمئنان قلبه وثقته بربه، وهو مع ذلك عامل للآخرة منتظر للجزاء من الله سبحانه، وهو الجنة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الآخرة‏}‏ أي‏:‏ أراد بأعماله الدار الآخرة ‏{‏وسعى لَهَا سَعْيَهَا‏}‏ أي‏:‏ السعي الحقيق بها اللائق بطالبها، وهو الإتيان بما أمر به، وترك ما نهى عنه خالصاً لله غير مشوب، وكان الإتيان به على القانون الشرعي من دون ابتداع ولا هوى ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ بالله إيماناً صحيحاً، لأن العمل الصالح لا يستحق صاحبه الجزاء عليه إلاّ إذا كان من المؤمنين‏:‏

‏{‏إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 27‏]‏، والجملة في محل نصب على الحال، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ إلى المريدين للآخرة الساعين لها سعيها وخبره ‏{‏كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا‏}‏ عند الله، أي‏:‏ مقبولاً غير مردود، وقيل‏:‏ مضاعفاً إلى أضعاف كثيرة، فقد اعتبر سبحانه في كون السعي مشكوراً أموراً ثلاثة‏:‏ الأول‏:‏ إرادة الآخرة، الثاني‏:‏ أن يسعى لها السعي الذي يحق لها، والثالث‏:‏ أن يكون مؤمناً‏.‏ ثم بين سبحانه كمال رأفته وشمول رحمته فقال‏:‏ ‏{‏كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ‏}‏ التنوين في «كلاً» عوض عن المضاف إليه، والتقدير كل واحد من الفريقين نمدّ، أي‏:‏ نزيده من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع، نرزق المؤمنين والكفار، وأهل الطاعة وأهل المعصية، لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه، وما به الإمداد هو ما عجله لمن يريد الدنيا، وما أنعم به في الأولى والأخرى على من يريد الآخرة، وفي قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ عَطَاء رَبّكَ‏}‏ إشارة إلى أن ذلك بمحض التفضل وهو متعلق ب ‏{‏نمد‏}‏، ‏{‏وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا‏}‏ أي‏:‏ ممنوعاً، يقال‏:‏ حظره يحظره حظراً‏:‏ منعه، وكل ما حال بينك وبين شيء، فقد حظره عليك، و‏{‏هؤلاء‏}‏ بدل من «كلا» وهؤلاء معطوف على البدل‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أعلم الله سبحانه أنه يعطي المسلم الكافر وأنه يرزقهما جميعاً الفريقين فقال‏:‏ ‏{‏هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ‏}‏‏.‏ ‏{‏انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون لكل من له أهلية النظر والاعتبار، وهذه الجملة مقرّرة لما مرّ من الإمداد وموضحة له، والمعنى‏:‏ انظر كيف فضلنا في العطايا العاجلة بعض العباد على بعض، فمن غني وفقير، وقوي وضعيف، وصحيح ومريض، وعاقل وأحمق، وذلك لحكمة بالغة تقصر العقول عن إدراكها‏.‏ ‏{‏وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً‏}‏ وذلك لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، وليس للدنيا بالنسبة إلى الآخرة مقدار، فلهذا كانت الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً، وقيل‏:‏ المراد‏:‏ أن المؤمنين يدخلون الجنة، والكافرين يدخلون النار، فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين‏.‏ وحاصل المعنى أن التفاضل في الآخرة ودرجاتها فوق التفاضل في الدنيا ومراتب أهلها فيها من بسط وقبض ونحوهما‏.‏ ثم لما أجمل سبحانه أعمال البرّ في قوله‏:‏ ‏{‏وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ أخذ في تفصيل ذلك مبتدئاً بأشرفها الذي هو التوحيد فقال‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته، تهييجاً وإلهاباً، أو لكل متأهل له صالح لتوجيهه إليه، وقيل‏:‏ هو على إضمار القول، والتقدير‏:‏ قل لكل مكلف‏:‏ لا تجعل، وانتصاب ‏{‏تقعد‏}‏ على جواب النهي، والتقدير‏:‏ لا يكون منك جعل فقعود؛ ومعنى ‏{‏تقعد‏}‏‏:‏ تصير، من قولهم‏:‏ شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها خربة، وليس المراد حقيقة القعود المقابل للقيام؛ وقيل‏:‏ هو كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات، فإن السعي فيه إنما يتأتى بالقيام، والعجز عنه يلزمه أن يكون قاعداً عن الطلب؛ وقيل‏:‏ إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً مفكراً على ما فرط منه، فالقعود على هذا حقيقة، وانتصاب ‏{‏مَذْمُومًا مَّخْذُولاً‏}‏ على خبرية تقعد أو على الحال‏:‏ أي فتصير جامعاً بين الأمرين‏:‏ الذم لك من الله ومن ملائكته، ومن صالحي عباده، والخذلان لك منه سبحانه، أو حال كونك جامعاً بين الأمرين‏.‏

ثم لما ذكر ما هو الركن الأعظم وهو التوحيد، أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال‏:‏ ‏{‏وقضى رَبُّكَ‏}‏ أي‏:‏ أمر أمراً جزماً، وحكماً قطعاً، وحتماً مبرماً ‏{‏أَن لاَّ تَعْبُدُواْ‏}‏ أي‏:‏ بأن لا تعبدوا، فتكون «أن» ناصبة، ويجوز أن تكون مفسرة، و‏"‏ لا ‏"‏ نهي‏.‏ وقرئ ‏(‏ووصى ربك‏)‏ أي‏:‏ وصى عباده بعبادته وحده، ثم أردفه بالأمر ببرّ الوالدين فقال‏:‏ ‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ أي‏:‏ وقضى بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا، أو وأحسنوا بهما إحساناً، ولا يجوز أن يتعلق ‏{‏بالوالدين ب ‏{‏إحسانا‏}‏، لأن المصدر لا يتقدّم عليه ما هو متعلق به‏.‏ قيل‏:‏ ووجه ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله سبحانه أنهما السبب الظاهر في وجود المتولد بينهما، وفي جعل الإحسان إلى الأبوين قريناً لتوحيد الله وعبادته من الإعلان بتأكد حقهما والعناية بشأنهما ما لا يخفى، وهكذا جعل سبحانه في آية أخرى شكرهما مقترناً بشكره فقال‏:‏ ‏{‏أَنِ اشكر لِى ولوالديك‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 14‏]‏‏.‏ ثم خص سبحانه حالة الكبر بالذكر، لكونها إلى البر من الولد أحوج من غيرها، فقال‏:‏ ‏{‏إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا‏}‏‏:‏ ‏"‏ إما ‏"‏ مركبة من ‏"‏ إن ‏"‏ الشرطية و‏"‏ ما ‏"‏ الإبهامية لتأكيد معنى الشرط، ثم أدخلت نون التوكيد في الفعل لزيادة التقرير، كأنه قيل‏:‏ إن هذا الشرط مما سيقع ألبتة عادة‏.‏ قال النحويون‏:‏ إن الشرط يشبه النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت، فلهذا صح دخول النون المؤكدة عليه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏(‏يبلغان‏)‏‏.‏ قال الفراء‏:‏ ثنى لأن الوالدين قد ذكرا قبله، فصار الفعل على عددهما، ثم قال‏:‏ ‏{‏أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا‏}‏ على الاستئناف، وأما على قراءة ‏{‏يبلغن‏}‏ فأحدهما فاعل بالاستقلال‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كِلاَهُمَا‏}‏ فاعل أيضاً، لكن لا بالاستقلال، بل بتبعية العطف، والأولى أن يكون أحدهما على قراءة ‏(‏يبلغان‏)‏ بدل من الضمير الراجع إلى الوالدين في الفعل، ويكون ‏{‏كلاهما‏}‏ عطفاً على البدل، ولا يصحّ جعل ‏{‏كلاهما‏}‏ تأكيداً للضمير، لاستلزام العطف المشاركة، ومعنى ‏{‏عندك‏}‏ في كنفك وكفالتك، وتوحيد الضمير في ‏{‏عندك‏}‏ و‏{‏لا تقل‏}‏ وما بعدهما للإشعار بأن كل فرد من الأفراد منهيّ بما فيه النهي، ومأمور بما فيه الأمر، ومعنى ‏{‏فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ‏}‏‏:‏ لا تقل لواحد منهما في حالتي الاجتماع والانفراد، وليس المراد حالة الاجتماع فقط‏.‏

وفي ‏{‏أف‏}‏ لغات‏:‏ ضم الهمزة مع الحركات الثلاث في الفاء، وبالتنوين وعدمه، وبكسر الهمز والفاء بلا تنوين، وأفى ممالاً، وأفه بالهاء‏.‏ قال الفراء‏:‏ تقول العرب‏:‏ فلان يتأفف من ريح وجدها، أي‏:‏ يقول أف أف‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ الأف وسخ الأذن، والثف‏:‏ وسخ الأظفار، يقال ذلك‏:‏ عند استقذار الشيء، ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به‏.‏ وروى ثعلب عن ابن الأعرابيّ أن الأفف‏:‏ الضجر، وقال القتيبي‏:‏ أصله‏:‏ أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله، فالصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قول القائل‏:‏ أفّ، ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه النتن‏.‏ وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ الأف‏:‏ وسخ بين الأظفار، والثف‏:‏ قلامتها‏.‏ والحاصل أنه اسم فعل ينبئ عن التضجر والاستثقال، أو صوت ينبئ عن ذلك، فنهى الولد عن أن يظهر منه ما يدل على التضجر من أبويه أو الاستثقال لهما، وبهذا النهي يفهم النهي عن سائر ما يؤذيهما بفحوى الخطاب أو بلحنه كما هو متقرر في الأصول‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَنْهَرْهُمَا‏}‏ النهر‏:‏ الزجر والغلظة، يقال‏:‏ نهره وانتهره‏:‏ إذا استقبله بكلام يزجره‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معناه لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجوههما‏.‏ ‏{‏وَقُل لَّهُمَا‏}‏ بدل التأفيف والنهر ‏{‏قَوْلاً كَرِيمًا‏}‏ أي‏:‏ ليناً لطيفاً أحسن ما يمكن التعبير عنه من لطف القول وكرامته مع التأدب والحياء والاحتشام ‏{‏واخفض لهما جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة‏}‏ ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين‏:‏ الأول‏:‏ أن الطائر إذا أراد ضم فراخه إليه للتربية خفض لها جناحه، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير، فكأنه قال للولد‏:‏ أكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك في حال صغرك‏.‏ والثاني‏:‏ أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد النزول خفض جناحه، فصار خفض الجناح كناية عن التواضع وترك الارتفاع؛ وفي إضافة الجناح إلى الذلّ وجهان‏:‏ الأوّل‏:‏ أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك‏:‏ حاتم الجود، فالأصل فيه‏:‏ الجناح الذليل، والثاني‏:‏ سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذلّ جناحاً، ثم أثبت لذلك الجناح خفضاً‏.‏ وقرأ الجمهور ‏(‏الذلّ‏)‏ بضم الذال من ذلّ يذل ذلاً وذلة ومذلة فهو ذليل‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير بكسر الذال، وروي ذلك عن ابن عباس وعاصم، من قولهم‏:‏ دابة ذلول، بنية الذل، أي‏:‏ منقادة سهلة لا صعوبة فيها، و‏{‏من الرحمة‏}‏ فيه معنى التعليل، أي‏:‏ من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم لمن كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ثم كأنه قال له سبحانه‏:‏ ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها ولكن ‏{‏قُل رَّبّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا‏}‏ والكاف في محل نصب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ رحمة مثل تربيتهما لي، أو مثل رحمتهما لي، وقيل‏:‏ ليس المراد رحمة مثل الرحمة، بل الكاف لاقترانهما في الوجود، فلتقع هذه كما وقعت تلك‏.‏

والتربية‏:‏ التنمية، ويجوز أن يكون الكاف للتعليل، أي‏:‏ لأجل تربيتهما، لي كقوله‏:‏ ‏{‏واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏‏.‏ ولقد بالغ سبحانه في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعرّ لها جلود أهل العقوق وتقف عندها شعورهم‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة‏}‏ قال‏:‏ من كان يريد بعمله الدنيا، ‏{‏عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ‏}‏ ذاك به‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏كُلاًّ نُّمِدُّ‏}‏ الآية، قال‏:‏ كل يرزق الله في الدنيا البرّ والفاجر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ يرزق الله من أراد الدنيا، ويرزق من أراد الآخرة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال‏:‏ ‏{‏مَحْظُورًا‏}‏ ممنوعاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد مثله‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة، فارتفع بها إلاّ وضعه الله في الآخرة درجة أكبر منها وأطول، ثم قرأ ‏{‏وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً‏}‏»، وهو من رواية زاذان عن سلمان‏.‏ وثبت في الصحيحين‏:‏ «أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما يرون الكوكب الغابر في أفق السماء» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مَذْمُومًا‏}‏ يقول‏:‏ ملوماً‏.‏ وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ‏:‏ ‏(‏ووصى ربك‏)‏، مكان ‏{‏وقضى‏}‏، وقال‏:‏ التزقت الواو والصاد، وأنتم تقرءونها‏:‏ ‏(‏وقضى ربك‏)‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه مثله‏.‏ وأخرج أبو عبيد، وابن منيع، وابن المنذر، وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه أيضاً مثله، وزاد «ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد»‏.‏ وأقول‏:‏ إنما يلزم هذا لو كان القضاء بمعنى الفراغ من الأمر، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء، كما في قوله‏:‏ ‏{‏قُضِىَ الامر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ‏}‏

‏[‏يوسف‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 200‏]‏‏.‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏‏.‏ ولكنه ها هنا بمعنى الأمر، وهو أحد معاني القضاء، والأمر لا يستلزم ذلك، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه، ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده، وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين، ومن معاني مطلق القضاء معانٍ أخر غير هذين المعنيين، كالقضاء بمعنى‏:‏ الخلق، ومنه ‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وبمعنى الإرادة كقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وبمعنى العهد كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وقضى رَبُّكَ‏}‏ قال‏:‏ أمر‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الآية قال‏:‏ عهد ربك‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ يقول‏:‏ برّاً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ‏}‏ لما تميط عنهما من الأذى‏:‏ الخلاء، والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول‏.‏ وأخرج الديلمي عن الحسين بن عليّ مرفوعاً‏:‏ لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أف لحرّمه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد في قوله‏:‏ ‏{‏وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا‏}‏ قال‏:‏ إذا دعواك فقل‏:‏ لبيكما وسعديكما‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية، قال‏:‏ قولاً ليناً سهلاً‏.‏ وأخرج البخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عروة في قوله‏:‏ ‏{‏واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل‏}‏ قال‏:‏ يلين لهما حتى لا يمتنع من شيء أحبّاه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية، قال‏:‏ اخضع لوالديك كما يخضع العبد للسيد الفظ الغليظ‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبّ ارحمهما‏}‏ ثم أنزل الله بعد هذا ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏‏.‏ وأخرج البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر من طرق عنه نحوه، وقد ورد في برّ الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهي معروفة في كتب الحديث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 33‏]‏

‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ‏(‏25‏)‏ وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ‏(‏27‏)‏ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ‏(‏28‏)‏ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ‏(‏29‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏30‏)‏ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ‏(‏31‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏32‏)‏ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات، ومن التوبة من الذنب الذي فرط منكم أو الإصرار عليه، ويندرج تحت هذا العموم ما في النفس من البرّ والعقوق اندراجاً أوّلياً؛ وقيل‏:‏ إن الآية خاصة بما يجب للأبوين من البرّ، ويحرم على الأولاد من العقوق، والأوّل أولى اعتباراً بعموم اللفظ، فلا تخصصه دلالة السياق ولا تقيده ‏{‏إِن تَكُونُواْ صالحين‏}‏ قاصدين الصلاح، والتوبة من الذنب، والإخلاص للطاعة فلا يضركم ما وقع من الذنب الذي تبتم عنه‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً‏}‏ أي‏:‏ الرجاعين عن الذنوب إلى التوبة، وعن عدم الإخلاص إلى محض الإخلاص‏.‏ غفوراً لما فرط منهم من قول أو فعل أو اعتقاد، فمن تاب تاب الله عليه، ومن رجع إلى الله رجع الله إليه‏.‏ ثم ذكر سبحانه التوصية بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال‏:‏ ‏{‏وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ‏}‏ والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم تهييجاً وإلهاباً لغيره من الأمة، أو لكل من هو صالح لذلك من المكلفين كما في قوله‏:‏ ‏{‏وقضى رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ والمراد بذي القربى‏:‏ ذو القرابة، وحقهم هو صلة الرحم التي أمر الله بها، وكرّر التوصية فيها‏.‏ والخلاف بين أهل العلم في وجوب النفقة للقرابة، أو لبعضهم كالوالدين على الأولاد‏.‏ والأولاد على الوالدين معروف، والذي ينبغي الاعتماد عليه وجوب صلتهم بما تبلغ إليه القدرة وحسبما يقتضيه الحال ‏{‏والمساكين‏}‏ معطوف على ‏{‏ذا القربى‏}‏، وفي هذا العطف دليل على أن المراد بالحق الحق المالي ‏{‏وابن السبيل‏}‏ معطوف على المسكين، والمعنى‏:‏ وآت من اتصف بالمسكنة، أو بكونه من أبناء السبيل حقه‏.‏ وقد تقدّم بيان حقيقة المسكين وابن السبيل في البقرة، وفي التوبة، والمراد في هذه الآية التصدّق عليهما بما بلغت إليه القدرة من صدقة النفل، أو مما فرضه الله لهما من صدقة الفرض، فإنهما من الأصناف الثمانية التي هي مصرف الزكاة‏.‏ ثم لما أمر سبحانه بما أمر به ها هنا، نهى عن التبذير فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ التبذير‏:‏ تفريق المال كما يفرّق البذر كيفما كان من غير تعمد لمواقعه، وهو الإسراف المذموم لمجاوزته للحدّ المستحسن شرعاً في الإنفاق، أو هو الإنفاق في غير الحق، وإن كان يسيراً‏.‏ قال الشافعي‏:‏ التبذير‏:‏ إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير‏.‏ قال القرطبيّ بعد حكايته القول الشافعي هذا‏:‏ وهذا قول الجمهور‏.‏ قال أشهب عن مالك‏:‏ التبذير هو أخذ المال من حقه، ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين‏}‏ فإن هذه الجملة تعليل للنهي عن التبذير، والمراد بالأخوة الممائلة التامة، وتجنب مماثلة الشيطان ولو في خصلة واحدة من خصاله واجب، فكيف فيما هو أعمّ من ذلك كما يدلّ عليه إطلاق المماثلة، والإسراف في الإنفاق من عمل الشيطان، فإذا فعله أحد من بني آدم فقد أطاع الشيطان واقتدى به ‏{‏وَكَانَ الشيطان لِرَبّهِ كَفُورًا‏}‏ أي‏:‏ كثير الكفران عظيم التمرّد عن الحق، لأنه مع كفره لا يعمل إلاّ شراً، ولا يأمر إلاّ بعمل الشرّ، ولا يوسوس إلاّ بما لا خير فيه‏.‏

وفي هذه الآية تسجيل على المبذرين بمماثلة الشياطين، ثم التسجيل على جنس الشيطان بأنه كفور، فاقتضى ذلك أن المنذر مماثل للشيطان، وكل مماثل للشيطان له حكم الشيطان، وكل شيطان كفور، فالمبذر كفور‏.‏ ‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ‏}‏ قد تقدّم قريباً أن أصل «إما» هذه مركب من ‏"‏ إن ‏"‏ الشرطية و‏"‏ ما ‏"‏ الإبهامية، وأن دخول نون التأكيد على الشرط لمشابهته للنهي؛ أي‏:‏ إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل لأمر اضطرك إلى ذلك الإعراض ‏{‏ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ‏}‏ أي لفقد رزق من ربك، ولكنه أقام المسبب الذي هو ابتغاء رحمة الله مقام السبب الذي هو فقد الرزق، لأن فاقد الرزق مبتغٍ له، والمعنى‏:‏ وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح الله به عليك ‏{‏فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا‏}‏ أي‏:‏ قولاً سهلاً ليناً كالوعد الجميل أو الاعتذار المقبول‏.‏ قال الكسائي‏:‏ يسرت له القول أي‏:‏ لينته‏.‏ قال الفراء‏:‏ معنى الآية إن تعرض عن السائل إضاقة وإعساراً ‏{‏فقل لهم قولاً ميسوراً‏}‏‏:‏ عدهم عدة حسنة‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ وإن تعرض عنهم ولم تنفعهم لعدم استطاعتك فقل لهم قولاً ميسوراً، وليس المراد هنا الإعراض بالوجه‏.‏ وفي هذه الآية تأديب من الله سبحانه لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون‏.‏ ربما يردّون، ولقد أحسن من قال‏:‏

إنْ لا يَكُنْ وَرِقٌ يَوْماً أَجُوُد بِها *** لِلسَائِلين فإنِّي لينّ العُودِ

لا يَعْدم السَائِلوُنَ الخْيرَ مِنْ خُلِقي *** إمَّا نَوالٌ وإمَّا حُسنُ مَرْدُودِ

لما ذكر سبحانه أدب المنع بعد النهي عن التبذير بيّن أدب الإنفاق فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط‏}‏ وهذا النهي يتناول كل مكلف، سواء كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته وتعليماً لهم، أو الخطاب لكل من يصلح له من المكلفين‏.‏ والمراد‏:‏ النهي للإنسان بأن يمسك إمساكاً يصير به مضيقاً على نفسه وعلى أهله، ولا يوسع في الإنفاق توسيعاً لا حاجة إليه، بحيث يكون به مسرفاً، فهو نهى عن جانبي الإفراط والتفريط‏.‏ ويتحصل من ذلك مشروعية التوسط، وهو العدل الذي ندب الله إليه‏:‏

ولا تك فيها مُفْرِطاً أو مفَرِّطا *** كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقد مثّل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه، بحيث لا يستطيع التصرّف بها، ومثّل حال من يجاوز الحدّ في التصرف بحال من يبسط يده بسطاً لا يتعلق بسببه فيها شيء مما تقبض الأيدي عليه، وفي هذا التصوير مبالغة بليغة‏.‏ ثم بيّن سبحانه غائلة الطرفين المنهيّ عنهما فقال‏:‏ ‏{‏فَتَقْعُدَ مَلُومًا‏}‏ عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح ‏{‏مَّحْسُوراً‏}‏ بسبب ما فعلته من الإسراف، أي‏:‏ منقطعاً عن المقاصد بسبب الفقر، والمحسور في الأصل‏:‏ المنقطع عن السير، من حسره السفر إذا بلغ منه، والبعير الحسير‏:‏ هو الذي ذهبت قوّته فلا انبعاث به، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏‏.‏ أي‏:‏ كليل منقطع؛ وقيل‏:‏ معناه نادماً على ما سلف، فجعله هذا القائل من الحسرة التي هي الندامة، وفيه نظر، لأن الفاعل من الحسرة‏:‏ حسران‏.‏ ولا يقال محسور إلاّ للملوم‏.‏ ثم سلى رسوله والمؤمنين بأن الذين يرهقهم من الإضافة ليس لهوانهم على الله سبحانه، ولكن لمشيئة الخالق الرازق فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ‏}‏ أي‏:‏ يوسعه على بعض ويضيقه على بعض لحكمة بالغة لا لكون من وسع له رزقه مكرماً عنده، ومن ضيقه عليه هائناً لديه‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز أن يراد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي لا تفنى خزائنه‏.‏ فأما عباده فعليهم أن يقتصدوا‏.‏ ثم علل ما ذكره من البسط للبعض والتضييق على البعض بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ يعلم ما يسرون وما يعلنون، لا يخفى عليه من ذلك خافية، فهو الخبير بأحوالهم، البصير بكيفية تدبيرهم في أرزاقهم، وفي هذه الآية دليل على أنه المتكفل بأرزاق عباده، فلذلك قال بعدها‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق‏}‏ أملق الرجل‏:‏ لم يبق له إلاّ الملقات، وهي الحجارة العظام الملس، قال الهذلي يصف صائداً‏:‏

أتيح لها أقيدر ذو خشيف *** إذا سامت على الملقات ساما

الأقيدر تصغير الأقدر‏:‏ وهو الرجل القصير، والخشيف من الثياب‏:‏ الخلق، وسامت‏:‏ مرّت، ويقال‏:‏ أملق‏:‏ إذا افتقر وسلب الدهر ما بيده‏.‏ قال أوس‏:‏

وأملق ما عندي خطوب تنبل *** نهاهم الله سبحانه عن أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر، وقد كانوا يفعلون ذلك، ثم بيّن لهم أن خوفهم من الفقر حتى يبلغوا بسبب ذلك إلى قتل الأولاد لا وجه له، فإن الله سبحانه هو الرازق لعباده، يرزق الأبناء كما يرزق الآباء، فقال‏:‏ ‏{‏نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم‏}‏ ولستم لهم برازقين حتى تصنعوا بهم هذا الصنع، وقد مرّ مثل هذه الآية في الأنعام ثم علل سبحانه النهي عن قتل الأولاد لذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا‏}‏‏.‏ قرأ الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمز المقصور‏.‏

وقرأ ابن عامر ‏(‏خطأ‏)‏ بفتح الخاء والطاء والقصر في الهمز، يقال‏:‏ خطئ في دينه خطئاً‏:‏ إذا أثم، وأخطأ‏:‏ إذا سلك سبيل خطأً عامداً أو غير عامد‏.‏ قال الأزهري، خطئ يخطأ خطئاً، مثل‏:‏ أثم يأثم إثماً، إذا تعمد الخطأ، وأخطأ‏:‏ إذا لم يتعمد إخطاء وخطأ، قال الشاعر‏:‏

دَعِيني إنمَّا خَطْئِي وصَوْبِي *** عليَّ وأَنَّ مَا أهلكتُ، مالُ

والخطأ‏:‏ الاسم يقوم مقام الأخطاء، وفيه لغتان‏:‏ القصر، وهو الجيد، والمدّ وهو قليل‏.‏ وقرأ ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمز‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا أعرف لهذه القراءة وجهاً، وكذلك جعلها أبو حاتم غلطاً‏.‏ وقرأ الحسن ‏(‏خطا‏)‏ بفتح الخاء والطاء منوّنة من غير همز‏.‏ ولما نهى سبحانه عن قتل الأولاد المستدعي لإفناء النسل، ذكر النهي عن الزنا المفضي إلى ذلك لما فيه من اختلاط الأنساب فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى‏}‏ وفي النهي عن قربانه بمباشرة مقدماته نهي عنه بالأولى، فإن الوسيلة إلى الشيء إذا كانت حراماً كان المتوسل إليه حراماً بفحوى الخطاب، والزنى فيه لغتان‏:‏ المد، والقصر‏.‏ قال الشاعر‏:‏

كَانَتْ فَرِيضةُ مَا تَقُولُ كَمَا *** كان الزناء فريضةَ الرَّجْمِ

ثم علل النهي عن الزنا بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً‏}‏ أي‏:‏ قبيحاً متبالغاً في القبح، مجاوزاً للحدّ ‏{‏وَسَاء سَبِيلاً‏}‏ أي‏:‏ بئس طريقاً طريقه، وذلك لأنه يؤدي إلى النار، ولا خلاف في كونه من كبائر الذنوب‏.‏ وقد ورد في تقبيحه والتنفير عنه من الأدلة ما هو معلوم‏.‏ ولما فرغ من ذكر النهي عن القتل لخصوص الأولاد، وعن النهي عن الزنا الذي يفضي إلى ما يفضي إليه قتل الأولاد، من اختلاط الأنساب، وعدم استقرارها، نهى عن قتل الأنفس المعصومة على العموم فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق‏}‏‏.‏ والمراد بالتي حرّم الله‏:‏ التي جعلها معصومة بعصمة الدين أو عصمة العهد‏.‏ والمراد بالحق الذي استثناه‏:‏ هو ما يباح به قتل الأنفس المعصومة في الأصل، وذلك كالردّة، والزنا من المحصن، وكالقصاص من القاتل عمداً عدواناً، وما يلتحق بذلك‏.‏ والاستثناء مفرّغ، أي‏:‏ لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلاّ بسبب متلبس بالحق، أو إلاّ متلبسين بالحق، وقد تقدّم الكلام في هذا في الأنعام‏.‏ ثم بين حكم بعض المقتولين بغير حق فقال‏:‏ ‏{‏وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا‏}‏ أي‏:‏ لا بسبب من الأسباب المسوّغة لقتله شرعاً ‏{‏فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا‏}‏ أي‏:‏ لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين، أو ممن له سلطان إن لم يكونوا موجودين، والسلطان‏:‏ التسلط على القاتل، إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية‏.‏ ثم لما بيّن إباحة القصاص، لمن هو مستحق لدم المقتول، أو ما هو عوض عن القصاص نهاه عن مجاوزة الحدّ فقال‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُسْرِف فّى القتل‏}‏ أي‏:‏ لا يجاوز ما أباحه الله له، فيقتل بالواحد اثنين أو جماعة، أو يمثل بالقاتل أو يعذبه‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏لا يسرف‏}‏ بالياء التحتية، أي‏:‏ الولي، وقرأ حمزة والكسائي ‏(‏تسرف‏)‏ بالتاء الفوقية، وهو خطاب للقاتل الأوّل، ونهي له عن القتل أي‏:‏ فلا تسرف أيها القاتل بالقتل فإن عليك القصاص مع ما عليك من عقوبة الله وسخطه ولعنته‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأئمة من بعده، أي‏:‏ لا تقتل يا محمد غير القاتل، ولا يفعل ذلك الأئمة بعدك‏.‏ وفي قراءة أبي‏:‏ ولا تسرفوا، ثم علل النهي عن السرف فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا‏}‏ أي‏:‏ مؤيداً معاناً، يعني‏:‏ الولي، فإن الله سبحانه قد نصره بإثبات القصاص له بما أبرزه من الحجج، وأوضحه من الأدلة، وأمر أهل الولايات بمعونته والقيام بحقه حتى يستوفيه، ويجوز أن يكون الضمير راجعاً إلى المقتول، أي‏:‏ إن الله نصره بوليّه، قيل‏:‏ وهذه الآية من أوّل ما نزل من القرآن في شأن القتل لأنها مكية‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏إِن تَكُونُواْ صالحين‏}‏ قال‏:‏ تكون البادرة من الولد إلى الوالد، فقال الله‏:‏ ‏{‏إِن تَكُونُواْ صالحين‏}‏ إن تكن النية صادقة ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً‏}‏ للبادرة التي بدرت منه، وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي في الشعب عنه في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً‏}‏ قال‏:‏ الرجاعين إلى الخير‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وهناد، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن الضحاك في الآية، قال‏:‏ الرجاعين من الذنب إلى التوبة، ومن السيئات إلى الحسنات‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لِلأوَّابِينَ‏}‏ قال‏:‏ للمطيعين المحسنين‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عنه، قال‏:‏ للتوابين‏.‏ وأخرج البخاري في تاريخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ‏}‏ قال‏:‏ أمره بأحقّ الحقوق، وعلمه كيف يصنع إذا كان عنده، وكيف يصنع إذا لم يكن عنده، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا‏}‏ قال‏:‏ إذا سألوك وليس عندك شيء انتظرت رزقاً من الله ‏{‏فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا‏}‏ يكون إن شاء الله يكون شبه العدة‏.‏ قال سفيان‏:‏ والعدة من النبي صلى الله عليه وسلم دين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ هو أن تصل ذا القرابة، وتطعم المسكين، وتحسن إلى ابن السبيل‏.‏ وأخرج ابن جرير عن علي بن الحسين أنه قال لرجل من أهل الشام‏:‏ أقرأت القرآن‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فما قرأت في بني إسرائيل‏:‏ ‏{‏وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ وإنكم للقرابة التي أمر الله أن يؤتي حقهم‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية، قال‏:‏ والقربى‏:‏ قربى بني عبد المطلب‏.‏

وأقول‏:‏ ليس في السياق ما يفيد هذا التخصيص، ولا دلّ على ذلك دليل، ومعنى النظم القرآني واضح، إن كان الخطاب مع كل من يصلح له من الأمة، لأن معناه أمر كل مكلف متمكن من صلة قرابته بأن يعطيهم حقهم وهو الصلة التي أمر الله بها‏.‏ وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان على وجه التعريض لأمته فالأمر فيه كالأوّل، وإن كان خطاباً له من دون تعريض، فأمته أسوته، فالأمر له صلى الله عليه وسلم بإيتاء ذي القربى حقه، أمر لكل فرد من أفراد أمته، والظاهر أن هذا الخطاب ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بدليل ما قبل هذه الآية، وهي قوله‏:‏ ‏{‏وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه‏}‏ ‏[‏الأسراء‏:‏ 23‏]‏ وما بعدها، وهي قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين‏}‏‏.‏

وفي معنى هذه الآية الدالة على وجوب صلة الرحم أحاديث كثيرة‏.‏ وأخرج أحمد، والحاكم وصححه عن أنس‏:‏ أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة، فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع‏؟‏ قال‏:‏ «تخرج الزكاة المفروضة، فإنها طهرة تطهرك وتصل أقاربك وتعرف حقّ السائل والجار والمسكين»، فقال‏:‏ يا رسول الله أقلل لي‏؟‏ قال‏:‏ «فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً» قال‏:‏ حسبي يا رسول الله‏.‏ وأخرج البزار، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ‏}‏ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدك‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ‏}‏ أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فدك‏.‏ قال ابن كثير بعد أن ساق حديث أبي سعيد هذا ما لفظه‏:‏ وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده، لأن الآية مكية، وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة، فكيف يلتئم هذا مع هذا‏؟‏ انتهى‏.‏ وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وصححه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ قال‏:‏ التبذير إنفاق المال في غير حقه‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ كنا- أصحاب محمد- نتحدّث أن التبذير‏:‏ النفقة في غير حقه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ المبذرين‏}‏ قال‏:‏ هم الذين ينفقون المال في غير حقه‏.‏ وأخرج البيهقي في الشعب عن عليّ قال‏:‏ ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا‏}‏ قال‏:‏ العدة‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن يسار أبي الحكم قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برّ من العراق، وكان معطاء كريماً، فقسمه بين الناس، فبلغ ذلك قوماً من العرب، فقالوا‏:‏ إنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم نسأله، فوجدوه وقد فرغ منه، فأنزل الله ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ‏}‏ قال‏:‏ محبوسة ‏{‏وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُومًا‏}‏ يلومك الناس ‏{‏مَّحْسُوراً‏}‏ ليس بيدك شيء‏.‏ أقول‏:‏ ولا أدري كيف هذا‏؟‏ فالآية مكية، ولم يكن إذ ذاك عرب يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحمل إليه شيء من العراق ولا مما هو أقرب منه، على أن فتح العراق لم يكن إلاّ بعد موته صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن المنهال بن عمرو‏:‏ بعثت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بابنها فقالت‏:‏ قل له‏:‏ اكسني ثوباً، فقال‏:‏ «ما عندي شيء»، فقالت‏:‏ ارجع إليه فقل له‏:‏ اكسني قميصك، فرجع إليه، فنزع قميصه فأعطاها إياه، فنزلت ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود نحوه‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وضرب بيده‏:‏ «أنفقي ما على ظهر كفي»، قالت‏:‏ إذن لا يبقى شيء‏.‏ قال ذلك ثلاث مرات، فأنزل الله ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً‏}‏ الآية، ويقدح في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوّج بعائشة إلاّ بعد الهجرة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً‏}‏ قال‏:‏ يعني بذلك‏:‏ البخل‏.‏ وأخرجا عنه في الآية قال‏:‏ هذا في النفقة، يقول‏:‏ لا تجعلها مغلولة لا تبسطها بخير، ولا تبسطها كل البسط، يعني‏:‏ التبذير ‏{‏فَتَقْعُدَ مَلُومًا‏}‏، يلوم نفسه على ما فاته من ماله ‏{‏مَّحْسُوراً‏}‏ ذهب ماله كله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ‏}‏ قال‏:‏ ينظر له، فإن كان الغنى خيراً له، أغناه، وإن كان الفقر خيراً له، أفقره‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏خَشْيَةَ إملاق‏}‏ قال‏:‏ مخافة الفقر والفاقة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه في قوله‏:‏ ‏{‏خطأ‏}‏ قال‏:‏ خطيئة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا‏}‏ قال‏:‏ يوم نزلت هذه الآية لم يكن حدود، فجاءت بعد ذلك الحدود في سورة النور‏.‏

وأخرج أبو يعلى، وابن مردويه عن أبيّ بن كعب أنه قرأ‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا إِنَّهُ كَانَ فاحشة وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً إِلاَّ مَن تَابَ فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ فذكر لعمر، فأتاه فسأله، فقال‏:‏ أخذتها من فيّ رسول الله، وليس لك عمل إلاّ الصفق بالبقيع‏.‏ وقد ورد في الترهيب عن فاحشة الزنا أحاديث كثيرة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال‏:‏ هذا بمكة ونبي الله صلى الله عليه وسلم بها، وهو أوّل شيء نزل من القرآن في شأن القتل، كان المشركون من أهل مكة يغتالون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله‏:‏ من قتلكم من المشركين، فلا يحملنكم قتله إياكم على أن تقتلوا له أباً أو أخاً أو واحداً من عشيرته وإن كانوا مشركين، فلا تقتلوا إلاّ قاتلكم، وهذا قبل أن تنزل براءة، وقبل أن يؤمر بقتال المشركين، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُسْرِف فّى القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا‏}‏ يقول‏:‏ لا تقتل غير قاتلك، وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين لا يحل لهم أن يقتلوا إلاّ قاتلهم‏.‏ وأخرج البيهقي في سننه عن زيد بن أسلم أن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلاً لم يرضوا حتى يقتلوا به رجلاً شريفاً، إذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم وقتلوا غيره، فوعظوا في ذلك بقول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُسْرِف فّى القتل‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا‏}‏ قال‏:‏ بينة من الله أنزلها، يطلبها وليّ المقتول، القود أو العقل، وذلك السلطان‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عنه ‏{‏فَلاَ يُسْرِف فّى القتل‏}‏ قال‏:‏ لا يكثر في القتل‏.‏ وأخرج ابن المنذر من طريق أبي صالح عنه أيضاً‏:‏ لا يقاتل إلاّ قاتل رحمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 41‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ‏(‏34‏)‏ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏35‏)‏ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ‏(‏36‏)‏ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ‏(‏37‏)‏ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ‏(‏39‏)‏ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه النهي عن إتلاف النفوس، أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال، وكان أهمها بالحفظ والرعايا مال اليتيم فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم‏}‏‏.‏ والنهي عن قربانه مبالغة في النهي عن المباشرة له وإتلافه‏.‏ ثم بيّن سبحانه أن النهي عن قربانه، ليس المراد منه النهي عن مباشرته فيما يصلحه ويفسده، بل يجوز لوليّ اليتيم أن يفعل في مال اليتيم ما يصلحه، وذلك يسلتزم مباشرته، فقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ أي‏:‏ إلاّ بالخصلة التي هي أحسن الخصال، وهي حفظه وطلب الربح فيه والسعي فيما يزيد به‏.‏ ثم ذكر الغاية التي للنهي عن قربان مال اليتيم فقال‏:‏ ‏{‏حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏}‏ أي‏:‏ لا تقربوه إلاّ بالتي هي أحسن حتى يبلغ اليتيم أشدّه، فإذا بلغ أشدّه كان لكم أن تدفعوه إليه، أو تتصرفوا فيه بإذنه‏.‏ وقد تقدّم الكلام على هذا مستوفى في الأنعام ‏{‏وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ‏}‏ قد مضى الكلام فيه في غير موضع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ كل ما أمر الله به ونهى عنه، فهو من العهد، فيدخل في ذلك ما بين العبد وربه، وما بين العباد بعضهم البعض‏.‏ والوفاء بالعهد‏:‏ هو القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضي، إلاّ إذا دلّ دليل خاص على جواز النقض ‏{‏إِنَّ العهد كَانَ مَّسْئُولاً‏}‏ أي‏:‏ مسئولاً عنه، فالمسئول هنا‏:‏ هو صاحبه، وقيل‏:‏ إن العهد يسأل تبكيتاً لناقضه‏.‏ ‏{‏وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ أتموا الكيل ولا تخسروه وقت كيلكم للناس‏.‏ ‏{‏وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم‏}‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هو ميزان العدل أيّ‏:‏ ميزان كان من موازين الدراهم وغيرها، وفيه لغتان‏:‏ ضم القاف، وكسرها، وقيل هو القبّان المسمى بالقرسطون؛ وقيل هو العدل نفسه، وهي لغة الروم، وقيل‏:‏ لغة سريانية‏.‏ وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر ‏(‏القُسطاس‏)‏ بضم القاف، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر القاف، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى إيفاء الكيل والوزن، وهو مبتدأ، وخبره ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ أي‏:‏ خير لكم عند الله وعند الناس، يتأثر عنه حسن الذكر وترغيب الناس في معاملة من كان كذلك ‏{‏وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ أي‏:‏ أحسن عاقبة، من آل إذا رجع‏.‏ ثم أمر سبحانه بإصلاح اللسان والقلب فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ أي‏:‏ لا تتبع ما لا تعلم، من قولك‏:‏ قفوت فلاناً‏:‏ إذا اتبعت أثره، ومنه قافية الشعر، لأنها تقفو كل بيت، ومنه القبيلة المشهورة بالقافة، لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس‏.‏ وحكى ابن جرير عن فرقة أنها قالت‏:‏ قفا وقاف، مثل عثا وعاث‏.‏ قال منذر بن سعيد البلوطي‏:‏ قفا وقاف، مثل جذب وجبذ‏.‏ وحكى الكسائي عن بعض القراء أنه قرأ ‏(‏تَقُفْ‏)‏ بضم القاف وسكون الفاء‏.‏

وقرأ الفراء بفتح القاف وهي لغة لبعض العرب، وأنكرها أبو حاتم وغيره‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم، أو يعمل بما لا علم له به، وهذه قضية كلية، وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور‏:‏ فقيل‏:‏ لا تذم أحداً بما ليس لك به علم؛ وقيل‏:‏ هي في شهادة الزور؛ وقيل‏:‏ هي في القذف‏.‏ وقال القتيبي‏:‏ معنى الآية‏:‏ لا تتبع الحدس والظنون، وهذا صواب، فإن ما عدا ذلك هو العلم؛ وقيل‏:‏ المراد بالعلم هنا‏:‏ هو الاعتقاد الراجح المستفاد من مستند قطعياً كان أو ظنياً‏.‏ قال أبو السعود في تفسيره‏:‏ واستعماله بهذا المعنى مما لا ينكر شيوعه‏.‏ وأقول‏:‏ إن هذه الآية قد دلت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم، ولكنها عامة مخصصة بالأدلة الواردة بجواز العمل بالظنّ كالعمل بالعامّ، وبخبر الواحد، والعمل بالشهادة، والاجتهاد في القبلة وفي جزاء الصيد ونحو ذلك، فلا تخرج من عمومها ومن عموم ‏{‏إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 36‏]‏‏.‏ إلاّ ما قام دليل جواز العمل به، فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان لعدم وجود الدليل في الكتاب والسنّة، فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه قاضياً‏:‏ «بم تقضي‏؟‏ قال بكتاب الله، قال‏:‏ فإن لم تجد، قال‏:‏ فبسنّة رسول الله، قال‏:‏ فإن لم تجد، قال‏:‏ أجتهد رأيي»‏.‏ وهو حديث صالح للاحتجاج به كما أوضحنا ذلك في بحث مفرد‏.‏ وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتاب أو السنّة، ولكنه قصر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهي دخولاً أوّلياً، لأنه محض رأي في شرع الله، وبالناس عنه غنىً بكتاب الله سبحانه وبسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم تدع إليه حاجة، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل إنما هو رخصة للمجتهد يجوز له أن يعمل به، ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به، وينزله منزلة مسائل الشرع، وبهذا يتضح لك أتمّ اتضاح، ويظهر لك أكمل ظهور أن هذه الآراء المدوّنة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شيء، والعامل بها على شفا جرف هار، فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفا ما ليس له به علم، والمقلد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده ‏{‏ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذه الآية خاصة بالعقائد ولا دليل على ذلك أصلاً‏.‏ ثم علل سبحانه النهي عن العمل بما ليس بعلم بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً‏}‏ إشارة إلى الأعضاء الثلاثة، وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسئولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ إن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل ب‏:‏ أولئك، وأنشد ابن جرير مستدلاً على جواز هذا قول الشاعر‏:‏

ذم المنازل بعد منزلة اللوى *** والعيش بعد أولئك الأيام

واعترض بأن الرواية بعد أولئك الأقوام، وتبعه غيره على هذا الخطأ كصاحب الكشاف‏.‏ والضمير في ‏{‏كان‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً‏}‏ يرجع إلى ‏"‏ كل ‏"‏، وكذا الضمير في ‏"‏ عنه ‏"‏، وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏كان‏}‏ يعود إلى القافي المدلول عليه بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْفُ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ «عنه» في محل رفع لإسناد ‏{‏مسئولاً‏}‏ إليه، ورد بما حكاه النحاس من الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جاراً أو مجروراً‏.‏ قيل‏:‏ والأولى أن يقال‏:‏ إنه فاعل ‏{‏مسئولاً‏}‏ المحذوف، والمذكور مفسر له‏.‏ ومعنى سؤال هذه الجوارح‏:‏ أنه يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات، والمستعمل لها‏:‏ هو الروح الإنساني، فإن استعملها في الخير استحق الثواب، وإن استعملها في الشرّ استحق العقاب؛ وقيل‏:‏ إن الله سبحانه ينطق الأعضاء هذه عند سؤالها فتخبر عما فعله صاحبها‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض مَرَحًا‏}‏ المرح‏:‏ قيل‏:‏ هو شدّة الفرح، وقيل‏:‏ التكبر في المشي؛ وقيل‏:‏ تجاوز الإنسان قدره؛ وقيل‏:‏ الخيلاء في المشي؛ وقيل‏:‏ البطر والأشر، وقيل‏:‏ النشاط‏.‏ والظاهر أن المراد به هنا‏:‏ الخيلاء والفخر، قال الزجاج في تفسير الآية‏:‏ لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً، وذكر الأرض مع أن المشي لا يكون إلاّ عليها، أو على ما هو معتمد عليها تأكيداً وتقريراً، ولقد أحسن من قال‏:‏

ولا تمش فوق الأرض إلاّ تواضعا *** فكم تحتها قوم هم منك أرفع

وإن كنت في عزّ وحرز ومنعة *** فكم مات من قوم هم منك أمنع

والمرح مصدر وقع حالاً، أي‏:‏ ذا مرح‏.‏ وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع تأكيد‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏مرحاً‏}‏ بفتح الراء على المصدر‏.‏ وحكى يعقوب عن جماعة كسرها على أنه اسم فاعل ثم علل سبحانه هذا النهي فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض‏}‏ يقال‏:‏ خرق الثوب أي‏:‏ شقه، وخرق الأرض‏:‏ قطعها، والخرق‏:‏ الواسع من الأرض، والمعنى‏:‏ أنك لن تخرق الأرض بمشيك عليها تكبراً، وفيه تهكم بالمختال المتكبر ‏{‏وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً‏}‏ أي‏:‏ ولن تبلغ قدرتك إلى أن تطاول الجبال حتى يكون عظم جثتك حاملاً لك على الكبر والاختيال، فلا قوّة لك حتى تخرق الأرض بالمشي عليها، ولا عظم في بدنك حتى تطاول الجبال، فما الحامل لك على ما أنت فيه‏؟‏‏.‏ و‏{‏طولاً‏}‏ مصدر في موضع الحال، أو تمييز، أو مفعول له؛ وقيل‏:‏ المراد بخرق الأرض نقبها، لا قطعها بالمسافة‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ خرقها‏:‏ قطعها، قال النحاس‏:‏ وهذا أبين كأنه مأخوذ من الخرق، وهو‏:‏ الفتحة الواسعة، ويقال‏:‏ فلان أخرق من فلان‏:‏ أي أكثر سفراً، والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏كُلُّ ذلك‏}‏ إلى جميع ما تقدّم ذكره من الأوامر والنواهي، أو إلى ما نهى عنه فقط من قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْفُ‏}‏ ‏{‏وَلاَ تَمْشِ‏}‏‏.‏

قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، ومسروق ‏(‏سيئه‏)‏ على إضافة سيء إلى الضمير، ويؤيد هذه القراءة قوله‏:‏ ‏{‏مَكْرُوهًا‏}‏ فإن السيء هو المكروه‏.‏ ويؤيدها أيضاً قراءة أبيّ‏:‏ ‏(‏كان سيئاته‏)‏، واختار هذه القراءة أبو عبيد‏.‏ وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ‏(‏سيئة‏)‏ على أنها واحدة السيئات، وانتصابها على خبرية كان، ويكون ‏{‏مكروهاً‏}‏ صفة ل «سيئة» على المعنى، فإنها بمعنى «سيئاً»، أو هو بدل من «سيئة»؛ وقيل‏:‏ هو خبر ثانٍ ل «كان» حملاً على لفظ ‏{‏كل‏}‏، ورجح أبو علي الفارسي البدل، وقد قيل في توجيهه بغير هذا مما فيه تعسف لا يخفى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والإضافة أحسن، لأن ما تقدّم من الآيات فيها سيء وحسن، فسيئه المكروه‏.‏ ويقوّي ذلك التذكير في المكروه، قال‏:‏ ومن قرأ بالتنوين جعل ‏{‏كل ذلك‏}‏ إحاطة بالمنهيّ عنه دون الحسن‏.‏ المعنى‏:‏ كل ما نهى الله عنه كان سيئة وكان مكروهاً‏.‏ قال‏:‏ والمكروه على هذه القراءة بدل من السيئة، وليس بنعت‏.‏ والمراد بالمكروه عند الله‏:‏ هو الذي يبغضه ولا يرضاه، لا أنه غير مراد مطلقاً، لقيام الأدلة القاطعة على أن الأشياء واقعة بإرادته سبحانه، وذكر مطلق الكراهة مع أن في الأشياء المتقدّمة ما هو من الكبائر إشعاراً بأن مجرّد الكراهة عنده تعالى يوجب انزجار السامع واجتنابه لذلك‏.‏ والحاصل‏:‏ أن في الخصال المتقدّمة ما هو حسن وهو المأمور به، وما هو مكروه وهو المنهيّ عنه، فعلى قراءة الإضافة تكون الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏كُلُّ ذلك‏}‏ إلى جميع الخصال حسنها ومكروهها، ثم الإخبار بأن ما هو سيء من هذه الأشياء وهو المنهي عنه مكروه عند الله، وعلى قراءة الإفراد من دون إضافة تكون الإشارة إلى المنهيات، ثم الإخبار عن هذه المنهيات بأنها سيئة مكروهة عند الله‏.‏ ‏{‏ذلك مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة‏}‏ الإشارة إلى ما تقدّم ذكره من قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَل‏}‏ إلى هذه الغاية، وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفاً، ‏{‏مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ‏}‏ أي‏:‏ من جنسه أو بعض منه، وسمي حكمة لأنه كلام محكم، وهو ما علمه من الشرائع، أو من الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها الفساد، وعند الحكماء‏:‏ أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته، و‏{‏من الحكمة‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالاً، أي‏:‏ كائناً من الحكمة، أو بدل من الموصول بإعادة الجار، أو متعلق ب ‏{‏أوحى‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ كرر سبحانه النهي عن الشرك تأكيداً وتقريراً وتنبيهاً عن أنه رأس خصال الدين وعمدته‏.‏

قيل‏:‏ وقد راعى سبحانه في هذا التأكيد دقيقة، فرتب على الأوّل كونه مذموماً مخذولاً، وذلك إشارة إلى حال الشرك في الدنيا، ورتب على الثاني أنه يلقى ‏{‏فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا‏}‏ وذلك إشارة إلى حاله في الآخرة، وفي القعود هناك، والإلقاء هنا إشارة إلى أن للإنسان في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة، وقد تقدّم تفسير الملوم والمدحور‏.‏ ‏{‏أفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملئكة إِنَاثًا‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏أصفاكم‏}‏‏:‏ خصكم، وقال الفضل‏:‏ أخلصكم، وهو خطاب للكفار القائلين بأن الملائكة بنات الله، وفيه توبيخ شديد، وتقريع بالغ لما كان يقوله هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل، والفاء للعطف على مقدّر، كنظائره مما قد كررناه‏.‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ‏}‏ يعني‏:‏ القائلين بأن لهم الذكر ولله الإناث ‏{‏قَوْلاً عَظِيمًا‏}‏ بالغاً في العظم والجراءة على الله إلى مكان لا يقادر قدره‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذا القرءان‏}‏ أي‏:‏ بينا ضروب القول فيه من الأمثال وغيرها، أو كررنا فيه؛ وقيل‏.‏ «في» زائدة، والتقدير ولقد صرفنا هذا القرآن‏.‏ والتصريف في الأصل‏:‏ صرف الشيء من جهة إلى جهة؛ وقيل‏:‏ معنى التصريف‏:‏ المغايرة، أي‏:‏ غايرنا بين المواعظ ليتذكروا ويعتبروا، وقراءة الجمهور ‏{‏صرّفنا‏}‏ بالتشديد، وقرأ الحسن بالتخفيف، ثم علل تعالى ذلك فقال‏:‏ ‏{‏لّيَذْكُرُواْ‏}‏ أي‏:‏ ليتعظوا ويتدبروا بعقولهم ويتفكروا فيه حتى يقفوا على بطلان ما يقولونه‏.‏ قرأ يحيى بن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي ‏(‏ليذكروا‏)‏ مخففاً، والباقون بالتشديد، واختارها أبو عبيد لما تفيده من معنى التكثير، وجملة ‏{‏وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا‏}‏ في محل نصب على الحال، أي‏:‏ والحال أن هذا التصريف والتذكير ما يزيدهم إلاّ تباعداً عن الحق وغفلة عن النظر في الصواب، لأنهم قد اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر، وهم لا ينزعون عن هذه الغواية ولا وازع لهم يزعهم إلى الهداية‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم‏}‏ قال‏:‏ كانوا لا يخالطونهم في مال ولا مأكل ولا مركب حتى نزلت ‏{‏وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 220‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ العهد كَانَ مَّسْئُولاً‏}‏ قال‏:‏ يسأل الله ناقض العهد عن نقضه‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية، قال‏:‏ يسأل عهده من أعطاه إياه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لغيركم ‏{‏وَزِنُواْ بالقسطاس‏}‏ يعني‏:‏ الميزان، وبلغة الروم‏:‏ الميزان‏:‏ القسطاس‏:‏ ‏{‏ذلك خَيْرٌ‏}‏ يعني‏:‏ وفاء الكليل والميزان خير من النقصان ‏{‏وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ عاقبة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ القسطاس‏:‏ العدل بالرومية‏.‏

وأخرج ابن المنذر عن الضحاك قال‏:‏ القسطاس‏:‏ القبّان‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ الحديد‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْفُ‏}‏ قال‏:‏ لا تقل‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ لا ترم أحداً بما ليس لك به علم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن الحنفية في الآية قال‏:‏ شهادة الزور‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً‏}‏ يقول‏:‏ سمعه وبصره وفؤاده تشهد عليه‏.‏ وأخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً‏}‏ قال‏:‏ يوم القيامة أكذلك كان أم لا‏؟‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمْشِ فِى الارض مَرَحًا‏}‏ قال‏:‏ لا تمش فخراً وكبراً، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال ولا أن تخرق الأرض بفخرك وكبرك‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ إن التوارة في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلا ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مَّدْحُورًا‏}‏ قال‏:‏ مطروداً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 48‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏43‏)‏ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏44‏)‏ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ‏(‏45‏)‏ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ‏(‏46‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏47‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ‏}‏‏.‏ قرأ ابن كثير، وحفص‏:‏ ‏{‏يقولون‏}‏ بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب للقائلين بأن مع الله آلهة أخرى، وإذن‏:‏ جواب عن مقالتهم الباطلة وجزاء ل «لو» ‏{‏لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِى العرش‏}‏ وهو الله سبحانه‏.‏ ‏{‏سَبِيلاً‏}‏‏:‏ طريقاً للمغالبة والممانعة كما تفعل الملوك مع بعضهم البعض من المقاتلة والمصاولة؛ وقيل‏:‏ معناه إذن لابتغت الآلهة إلى الله القربة والزلفة عنده، لأنهم دونه، والمشركون إنما اعتقدوا أنها تقرّبهم إلى الله‏.‏ والظاهر المعنى الأول، ومثل معناه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ثم نزه تعالى نفسه، فقال‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ والتسبيح‏:‏ التنزيه، وقد تقدّم، ‏{‏وتعالى‏}‏ متباعد ‏{‏عَمَّا يَقُولُونَ‏}‏ من الأقوال الشنيعة والفرية العظيمة ‏{‏عُلُوّاً‏}‏ أي‏:‏ تعالياً، ولكنه وضع العلوّ موضع التعالي كقوله‏:‏ ‏{‏والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏‏.‏ ثم وصف العلوّ بالكبر مبالغة في النزاهة، وتنبيهاً على أن بين الواجب لذاته والممكن لذاته، وبين الغني المطلق، والفقير المطلق، مباينة لا تعقل الزيادة عليها‏.‏ ثم بين سبحانه جلالة ملكه وعظمة سلطانه فقال‏:‏ ‏{‏يُسَبّحُ لَهُ السموات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ‏}‏ قرئ بالمثناة التحتية في يسبح، وبالفوقية، وقال‏:‏ ‏{‏فيهنّ‏}‏ بضمير العقلاء لإسناده إليها التسبيح الذي هو فعل العقلاء، وقد أخبر سبحانه عن السموات والأرض بأنها تسبحه، وكذلك من فيها من مخلوقاته الذين لهم عقول وهم الملائكة والإنس والجن وغيرهم من الأشياء التي لا تعقل، ثم زاد ذلك تعميماً وتأكيداً فقال‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏ فشمل كل ما يسمى شيئاً كائناً ما كان، وقيل‏:‏ إنه يحمل قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن فِيهِنَّ‏}‏ على الملائكة والثقلين، ويحمل ‏{‏وَإِن مّن شَئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏ على ما عدا ذلك من المخلوقات‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في هذا العموم هل هو مخصوص أم لا‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ ليس بمخصوص، وحملوا التسبيح على تسبيح الدلالة، لأن كل مخلوق يشهد على نفسه ويدلّ غيره بأن الله خالق قادر‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ هذا التسبيح على حقيقته والعموم على ظاهره‏.‏ والمراد أن كل المخلوقات تسبح لله سبحانه هذا التسبيح الذي معناه التنزيه وإن كان البشر لا يسمعون ذلك ولا يفهمونه، ويؤيد هذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ‏}‏ فإنه لو كان المراد تسبيح الدلالة لكان أمراً مفهوماً لكل أحد، وأجيب‏:‏ بأن المراد بقوله ‏{‏لاَّ تَفْقَهُونَ‏}‏ الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إن هذا العموم مخصوص بالملائكة والثقلين دون الجمادات، وقيل‏:‏ خاص بالأجسام النامية فيدخل النباتات، كما روي هذا القول عن عكرمة والحسن وخصا تسبيح النباتات بوقت نموها لا بعد قطعها‏.‏

وقد استدلّ لذلك بحديث‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على قبرين‏.‏‏.‏‏.‏ وفيه‏:‏ ثم دعا بعسيب رطب فشقه اثنين، وقال‏:‏» إنه يخفف عنهما ما لم ييبسا «‏.‏ ويؤيد حمل الآية على العموم قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 74‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 90‏]‏، ونحو ذلك من الآيات‏.‏ وثبت في الصحيح أنهم كانوا يسمعون تسبيح الطعام، وهم يأكلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا حديث حنين الجذع، وحديث‏:‏ أن حجراً بمكة كان يسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكلها في الصحيح، ومن ذلك تسبيح الحصى في كفه صلى الله عليه وسلم، ومدافعة عموم هذه الآية بمجرّد الاستبعادات ليس دأب من يؤمن بالله سبحانه ويؤمن بما جاء من عنده‏.‏ ومعنى ‏{‏إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏ إلاّ يسبح متلبساً بحمده ‏{‏ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ‏}‏‏.‏ قرأ الحسن، وأبو عمرو، ويعقوب، وحفص، وحمزة، والكسائي، وخلف ‏(‏تسبح‏)‏ بالمثناة الفوقية على الخطاب، وقرأ الباقون بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيدة ‏{‏إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا‏}‏ فمن حلمه الإمهال لكم وعدم إنزال عقوبته عليكم، ومن مغفرته لكم أنه لا يؤاخذ من تاب منكم‏.‏ ولما فرغ سبحانه من الإلهيات شرع في ذكر بعض من آيات القرآن وما يقع من سامعيه فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا‏}‏ جعلنا بينك يا محمد وبين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً أي‏:‏ إنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب يمرّون بك ولا يرونك، ذكر معناه الزجاج وغيره، ومعنى ‏{‏مستوراً‏}‏‏:‏ ساتر‏.‏ قال الأخفش‏:‏ أراد ساتراً، والفاعل قد يكون في لفظ المفعول كما تقول‏:‏ إنك لمشئوم وميمون، وإنما هو شائم ويامن؛ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏مستوراً‏}‏‏:‏ ذا ستر، كقولهم‏:‏ سيل مفعم‏:‏ أي‏:‏ ذو إفعام، وقيل‏:‏ هو حجاب لا تراه الأعين فهو مستور عنها، وقيل‏:‏ حجاب من دونه حجاب فهو مستور بغيره، وقيل‏:‏ المراد بالحجاب‏:‏ المستور الطبع والختم‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ الأكنة‏:‏ جمع كنان‏.‏ وقد تقدّم تفسيره في الأنعام، وقيل‏:‏ هو حكاية لما كانوا يقولونه، من قولهم‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا غُلْفٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏ ‏{‏وفي آذننا وقر ومن بينا وبينك حجاب‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏ و‏{‏أَن يَفْقَهُوهُ‏}‏ مفعول لأجله، أي‏:‏ كراهة أن يفقهوه، أو لئلا يفقهوه، أي‏:‏ يفهموا ما فيه من الأوامر والنواهي والحكم والمعاني ‏{‏وفي آذانهم وقرا‏}‏ أي‏:‏ صمماً وثقلاً، وفي الكلام حذف، والتقدير‏:‏ أن يسمعوه‏.‏ ومن قبائح المشركين أنهم كانوا يحبون أن يذكر آلهتهم كما يذكر الله سبحانه، فإذا سمعوا ذكر الله دون ذكر آلهتهم نفروا عن المجلس، ولهذا قال الله‏:‏ ‏{‏وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده‏}‏ أي‏:‏ واحداً غير مشفوع بذكر آلهتهم، فهو مصدر وقع موقع الحال ‏{‏وَلَّوْاْ على أدبارهم نُفُوراً‏}‏ هو مصدر، والتقدير‏:‏ هربوا نفوراً، أو نفروا نفوراً؛ وقيل‏:‏ جمع نافر كقاعد وقعود‏.‏

والأوّل أولى‏.‏ ويكون المصدر في موضع الحال أي‏:‏ ولوا نافرين‏.‏ ‏{‏نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ يستمعون إليك متلبسين به من الاستخفاف بك وبالقرآن واللغو في ذكرك لربك وحده، وقيل‏:‏ الباء زائدة والظرف في ‏{‏إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ‏}‏ متعلق ب ‏{‏أعلم‏}‏ أي‏:‏ نحن أعلم وقت يستمعون إليك بما يستمعون به، وفيه تأكيد للوعيد، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ هُمْ نجوى‏}‏ متعلق بأعلم أيضاً، أي‏:‏ ونحن أعلم بما يتناجون به فيما بينهم وقت تناجيهم، وقد كانوا يتناجون بينهم بالتكذيب والاستهزاء، ‏{‏يقول‏}‏ بدل من ‏{‏إذ هم نجوى‏}‏‏.‏ ‏{‏إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا‏}‏ أي‏:‏ يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم‏:‏ ما تتبعون إلاّ رجلاً سحر فاختلط عقله وزال عن حدّ الاعتدال‏.‏ قال ابن الأعرابيّ‏:‏ المسحور الذاهب العقل الذي أفسد، من قولهم‏:‏ طعام مسحور إذا أفسد عمله، وأرض مسحورة أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها؛ وقيل‏:‏ المسحور‏:‏ المخدوع، لأن السحر حيلة وخديعة، وذلك لأنهم زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يتعلم من بعض الناس، وكانوا يخدعونه بذلك التعليم‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ معنى ‏{‏مسحوراً‏}‏ أن له سحراً، أي‏:‏ رئة، فهو لا يستغني عن الطعام والشراب فهو مثلكم، وتقول العرب للجبان‏:‏ قد انتفخ سحره، وكل من كان يأكل من آدمي أو غيره مسحور، ومنه قول امرئ القيس‏:‏

أرانا موضعين لأمر غيب *** ونسحر بالطعام وبالشراب

أي‏:‏ نغذى ونعلل‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ لا أدري ما حمله على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسرّوه بالوجوه الواضحة‏.‏ ‏{‏انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال‏}‏ أي قالوا تارة‏:‏ إنك كاهن، وتارة ساحر، وتارة شاعر، وتارة مجنون ‏{‏فضّلواْ‏}‏ عن طريق الصواب في جميع ذلك ‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً‏}‏ إلى الهدى أو إلى الطعن الذي تقبله العقول ويقع التصديق له لا أصل الطعن، فقد فعلوا منه ما قدروا عليه؛ وقيل‏:‏ لا يستطيعون مخرجاً لتناقض كلامهم كقولهم‏:‏ ساحر مجنون‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِى العرش سَبِيلاً‏}‏ قال‏:‏ على أن يزيلوا ملكه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الرحمن بن قرط‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى كان جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فطارا به حتى بلغ السموات العلى، فلما رجع قال‏:‏ «سمعت تسبيحاً من السموات العلى مع تسبيح كثير سبحت السموات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي العلوّ بما علا، سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى»

وأخرج ابن مردويه عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو جالس مع أصحابه إذ سمع هدّة فقال‏:‏ «أطت السماء ويحقها أن تئط، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلاّ فيه جبهة ملك ساجد يسبح بحمده» وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه‏؟‏ إن نوحاً قال لابنه‏:‏ يا بني آمرك أن تقول‏:‏ سبحان الله، فإنها صلاة الخلائق، وتسبيح الخلق، وبها يرزق الخلق» قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏‏.‏ وأخرج أحمد، وابن مردويه من حديث ابن عمر نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال‏:‏ ما من عبد سبّح تسبيحة إلاّ سبّح ما خلق الله من شيء، قال الله ‏{‏وَإِن مّن شَئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏ قال ابن كثير‏:‏ إسناده فيه ضعف‏.‏ وأخرج البخاري ومسلم وغيرهم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قرصت نملة نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحي الله إليه‏:‏ من أجل نملة واحدة أحرقت أمة من الأمم تسبح» وأخرج النسائي، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عمرو قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع وقال‏:‏ «نقيقها تسبيح» وأخرج أبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏ قال‏:‏ الزرع يسبح وأجره لصاحبه، والثوب يسبح ويقول الوسخ‏:‏ إن كنت مؤمناً فاغسلني إذن‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عنه قال‏:‏ كل شيء يسبح إلاّ الكلب والحمار‏.‏ وأخرج ابن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال‏:‏ أتى أبو بكر بغراب وافر الجناحين، فجعل ينشر جناحيه ويقول‏:‏ ما صِيد من صيدٍ ولا عضد من شجرة إلاّ بما ضيعت من التسبيح‏.‏ وأخرجه أحمد في الزهد، وأبو الشيخ عن ميمون بن مهران قال‏:‏ أتى أبو بكر الصديق فذكره من قوله غير مرفوع‏.‏ وأخرجه أبو نعيم في الحلية، وابن مردويه من حديث أبي هريرة بنحوه‏.‏ وأخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود بمعنى بعضه‏.‏ وأخرج أبو الشيخ من حديث أبي الدرداء بمعناه‏.‏ وأخرج ابن عساكر من حديث أبي رهم نحوه‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال‏:‏ هذه الآية في التوراة كقدر ألف آية ‏{‏وَإِن مّن شَئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏ قال‏:‏ في التوراة تسبح له الجبال ويسبح له الشجر، ويسبح له كذا ويسبح له كذا‏.‏ وأخرج أحمد، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال‏:‏ صلى داود ليلة حتى أصبح، فلما أصبح وجد في نفسه سروراً، فنادته ضفدعة‏:‏ يا داود، كنت أدأب منك قد أغفيت إغفاء‏.‏

وأخرج البيهقي في الشعب عن صدقة بن يسار قال‏:‏ كان داود في محرابه فأبصر دودة صغيرة ففكر في خلقها وقال‏:‏ ما يعبأ الله بخلق هذه، فأنطقها الله فقالت‏:‏ يا داود، أتعجبك نفسك، لأنا على قدر ما آتاني الله أذكر لله وأشكر له منك على ما آتاك الله، قال الله‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏‏.‏ وفي الباب أحاديث وروايات عن السلف فيها التصريح بتسبيح جميع المخلوقات‏.‏ وأخرج أبو يعلى، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن أسماء بنت أبي بكر قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1‏]‏ أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة، وفي يدها فهر وهي تقول‏:‏

مذمماً أبينا *** ودينه قلينا وأمره عصينا

ورسول الله جالس وأبو بكر إلى جنبه، فقال أبو بكر‏:‏ لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك، فقال‏:‏ إنها لن تراني، وقرأ قرآناً اعتصم به كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا‏}‏ فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم ترَ النبيّ فقالت‏:‏ يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني، فقال أبو بكر‏:‏ لا وربّ هذا البيت ما هجاك، فانصرفت وهي تقول‏:‏ قد علمت قريش أني بنت سيدها، وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا‏}‏ قال‏:‏ الحجاب المستور‏:‏ أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به، أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد في الآية قال‏:‏ ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن على المشركين بمكة سمعوا قراءته ولا يرونه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَّوْاْ على أدبارهم نُفُوراً‏}‏ قال‏:‏ الشياطين‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ‏}‏ قال‏:‏ عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 55‏]‏

‏{‏وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏49‏)‏ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ‏(‏50‏)‏ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏52‏)‏ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏53‏)‏ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏54‏)‏ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

لما فرغ سبحانه من حكاية شبه القوم في النبوّات حكى شبهتهم في أمر المعاد فقال‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا‏}‏ والاستفهام، للاستنكار والاستبعاد‏.‏ وتقرير الشبهة‏:‏ أن الإنسان إذا مات جفت عظامه وتناثرت وتفرقت في جوانب العالم، واختلطت بسائطها بأمثالها من العناصر، فكيف يعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها، ثم عود الحياة إلى ذلك المجموع، فأجاب سبحانه عنهم بأن إعادة بدن الميت إلى حال الحياة أمر ممكن، ولو فرضتم أن بدنه قد صار أبعد شيء من الحياة ومن رطوبة الحي كالحجارة والحديد، فهو كقول القائل‏:‏ أتطمع فيّ وأنا ابن فلان‏؟‏ فيقول‏:‏ كن ابن السلطان أو ابن من شئت فسأطلب منك حقي‏.‏ والرفات‏:‏ ما تكسر وبلى من كلّ شيء كالفتات والحطام والرضاض، قاله أبو عبيدة، والكسائي، والفراء، والأخفش‏.‏ تقول منه‏:‏ رفت الشيء رفتاً، أي‏:‏ حطم فهو مرفوت‏.‏ وقيل‏:‏ الرفات‏:‏ الغبار، وقيل‏:‏ التراب ‏{‏أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً‏}‏ كرّر الاستفهام الدالّ على الاستنكار والاستبعاد؛ تأكيداً وتقريراً، والعامل في «إذا» هو ما دلّ عليه ‏{‏لمبعوثون‏}‏، لا هو نفسه، لأن ما بعد إنّ والهمزة واللام لا يعمل فيما قبلها، والتقدير‏:‏ ‏{‏ءإذا كنا عظاماً ورفاتاً‏}‏ نبعث ‏{‏ءإنا لمبعوثون‏}‏، وانتصاب ‏{‏خلقاً‏}‏ على المصدرية من غير لفظه، أو على الحال، أي‏:‏ مخلوقين، و‏{‏جديداً‏}‏ صفة له‏.‏ ‏{‏قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً‏.‏ أَوْ خَلْقًا‏}‏ آخر ‏{‏مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ معناه‏:‏ إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاماً ولحماً فكونوا أنتم حجارة أو حديداً إن قدرتم على ذلك، وقال علي بن عيسى‏:‏ معناه‏:‏ إنكم لو كنتم حجارة أو حديداً لم تفوتوا الله عزّ وجلّ إذا أرادكم‏.‏ إلاّ أنه خرج مخرج الأمر لأنه أبلغ في الإلزام؛ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ لو كنتم حجارة أو حديداً لأعادكم كما بدأكم ولأماتكم ثم أحياكم، قال النحاس‏:‏ وهذا قول حسن، لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة أو حديداً، وإنما المعنى‏:‏ أنهم قد أقرّوا بخالقهم وأنكروا البعث، فقيل لهم‏:‏ استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم حجارة أو حديداً لبعثتم كما خلقتم أوّل مرة‏.‏ قلت‏:‏ وعلى هذا الوجه قررنا جواب الشبهة قبل هذا‏.‏ ‏{‏أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يعظم عندكم مما هو أكبر من الحجارة والحديد مباينة للحياة فإنكم مبعوثون لا محالة، وقيل‏:‏ المراد به السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس‏.‏ وقال جماعة من الصحابة والتابعين‏:‏ المراد به الموت، لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه‏.‏ والمعنى‏:‏ لو كنتم الموت لأماتكم الله ثم بعثكم‏.‏ ولا يخفى ما في هذا من البعد، فإن معنى الآية‏:‏ الترقي من الحجارة إلى الحديد، ثم من الحديد إلى ما هو أكبر في صدور القوم منه، والموت نفسه ليس بشيء يعقل ويحسّ حتى يقع الترقي من الحديد إليه ‏{‏فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا‏}‏ إذا كنا عظاماً ورفاتاً، أو حجارة أو حديداً مع ما بين الحالتين من التفاوت‏.‏

‏{‏قُلِ الذى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ يعيدكم الذي خلقكم واخترعكم عند ابتداء خلقكم من غير مثال سابق ولا صورة متقدّمة ‏{‏فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءوسِهِمُ‏}‏ أي‏:‏ يحركونها استهزاءً، يقال‏:‏ نغض رأسه ينغض وينغض وينغض نغضاً ونغوضاً أي‏:‏ تحرك، وأنغض رأسه حركه كالمتعجب، ومنه قول الراجز‏:‏

أنغض نحوي رأسه‏:‏ وأقنعا *** وقول الراجز الآخر‏:‏

ونغضت من هرم أسنانها *** وقال آخر‏:‏

لما رأتني أنغضت لي رأسها *** ‏{‏وَيَقُولُونَ متى هُوَ‏}‏ أي‏:‏ البعث والإعادة استهزاء منهم وسخرية ‏{‏قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيبًا‏}‏ أي‏:‏ هو قريب، لأن عسى في كلام الله واجب الوقوع، ومثله ‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 63‏]‏، وكل ما هو آتٍ قريب ‏{‏يَوْمَ يَدْعُوكُمْ‏}‏ الظرف منتصب بفعل مضمر أي‏:‏ اذكر، أو بدل من ‏{‏قريباً‏}‏، أو التقدير‏:‏ يوم يدعوكم كان ما كان، الدعاء‏:‏ النداء إلى المحشر بكلام يسمعه الخلائق، وقيل‏:‏ هو الصيحة التي تسمعونها، فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض المحشر ‏{‏فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ‏}‏ أي‏:‏ منقادين له، حامدين لما فعله بكم، فهو في محل نصب على الحال‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ فتستجيبون والحمد لله كما قال الشاعر‏:‏

وإني بحمد الله لا ثوب فاخر *** لبست ولا من غدرة أتقنع

وقد روي أن الكفار عند خروجهم من قبورهم يقولون‏:‏ سبحانك وبحمدك؛ وقيل‏:‏ المراد بالدعاء هنا البعث، وبالاستجابة‏:‏ أنهم يبعثون، فالمعنى‏:‏ يوم يبعثكم فتبعثون منقادين ‏{‏وَتَظُنُّونَ إِن لبثتم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي‏:‏ تظنون عند البعث أنكم ما لبثتم في قبوركم إلاّ زمناً قليلاً، وقيل‏:‏ بين النفختين، وذلك أن العذاب يكف عن المعذبين بين النفختين، وذلك أربعون عاماً ينامون فيها، فلذلك ‏{‏قَالُواْ مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا‏}‏ ‏[‏ياس‏:‏ 52‏]‏، وقيل‏:‏ إن الدنيا تحقرت في أعينهم وقلّت حين رأوا يوم القيامة، فقالوا هذه المقالة‏.‏ ‏{‏وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ التى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ أي قل‏:‏ يا محمد لعبادي المؤمنين‏:‏ أن يقولو عند محاورتهم للمشركين الكلمة التي هي أحسن من غيرها من الكلام الحسن كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏ لأن المخاشنة لهم ربما تنفرهم عن الإجابة أو تؤدي إلى ما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 108‏]‏‏.‏ وهذا كان قبل نزول آية السيف، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ قل لهم يأمروا بما أمر الله وينهوا عما نهى عنه، وقيل‏:‏ هذه الآية للمؤمنين فيما بينهم خاصة، والأوّل أولى كما يشهد به السبب الذي سنذكره إن شاء الله ‏{‏إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ بالفساد وإلقاء العداوة والإغراء‏.‏

قال اليزيدي‏:‏ يقال نزغ بيننا أي‏:‏ أفسد‏.‏ وقال غيره‏:‏ النزغ الإغراء ‏{‏إِنَّ الشيطان كَانَ للإنسان عَدُوّا مُّبِينًا‏}‏ أي‏:‏ متظاهراً بالعداوة مكاشفاً بها، وهو تعليل لما قبله، وقد تقدّم مثل هذا في البقرة‏.‏ ‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ‏}‏ قيل‏:‏ هذا خطاب للمشركين‏.‏ والمعنى‏:‏ إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم أو يميتكم عن الشرك فيعذبكم، وقيل‏:‏ هو خطاب للمؤمنين أي‏:‏ ‏{‏إن يشأ يرحمكم‏}‏ بأن يحفظكم من الكفار ‏{‏أو إن يشأ يعذبكم‏}‏ بتسليطهم عليكم؛ وقيل‏:‏ إن هذا تفسير لكلمة ‏{‏التي هي أحسن‏}‏ ‏{‏وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً‏}‏ أي‏:‏ ما وكلناك في منعهم من الكفر، وقسرهم على الإيمان؛ وقيل‏:‏ ما جعلناك كفيلاً لهم تؤخذ بهم، ومنه قول الشاعر‏:‏

ذكرت أبا أروى فبتّ كأنني *** بردّ الأمور الماضيات وكيل

أي‏:‏ كفيل‏.‏ ‏{‏وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السموات والارض‏}‏ أعلم بهم ذاتاً وحالاً واستحقاقاً، وهو أعمّ من قوله‏:‏ ‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ‏}‏ لأن هذا يشمل كل ما في السموات والأرض من مخلوقاته، وذاك خاص ببني آدم أو ببعضهم، وهذا كالتوطئة لقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ‏}‏ أي‏:‏ إن هذا التفضيل عن علم منه بمن هو أعلى رتبة وبمن دونه، وبمن يستحق مزيد الخصوصية بتكثير فضائله وفواضله‏.‏ وقد تقدّم هذا في البقرة‏.‏ وقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، وجعل عيسى كلمته وروحه، وجعل لسليمان ملكاً عظيماً، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وجعله سيد ولد آدم‏.‏ وفي هذه الآية دفع لما كان ينكره الكفار مما يحكيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ارتفاع درجته عند ربه عزّ وجلّ، ثم ذكر ما فضل به داود، فقال‏:‏ ‏{‏وَءاتَيْنَا داود زبورا‏}‏ أي‏:‏ كتاباً مزبوراً‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي فلا تنكروا تفضيل محمد وإعطاءه القرآن فقد أعطى الله داود زبوراً‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ورفاتا‏}‏ قال‏:‏ غباراً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏ورفاتا‏}‏ قال‏:‏ تراباً، وفي قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً‏}‏ قال‏:‏ ما شئتم فكونوا، فسيعيدكم الله كما كنتم‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ الموت، لو كنتم موتاً لأحييتكم‏.‏ وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير، والحاكم عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن مثله أيضاً‏.‏ وأخرج عبد الله بن أحمد، وابن جرير، وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه، وزاد قال‏:‏ فكونوا الموت إن استطعتم فإن الموت سيموت‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءوسِهِمُ‏}‏ قال‏:‏ سيحركونها استهزاءً‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ متى هُوَ‏}‏ قال‏:‏ الإعادة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ‏}‏ قال‏:‏ بأمره‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال‏:‏ يخرجون من قبورهم وهم يقولون‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة ‏{‏فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ‏}‏ قال‏:‏ بمعرفته وطاعته ‏{‏وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا، تحاقرت الدنيا في أنفسهم، وقلّت حين عاينوا يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين في قوله‏:‏ ‏{‏وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ التى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ قال‏:‏ لا إله إلاّ الله‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال‏:‏ يعفو عن السيئة‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الحسن قال‏:‏ يقول له يرحمك الله، يغفر الله لك‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال‏:‏ نزغ الشيطان‏:‏ تحريشه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً‏}‏ قال‏:‏ كنا نحدّث أنه دعاء علمه داود، وتحميد وتمجيد لله عزّ وجلّ ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال‏:‏ الزبور‏:‏ ثناء على الله ودعاء وتسبيح‏.‏ قلت‏:‏ الأمر كما قاله قتادة والربيع، فإنا وقفنا على الزبور فوجدناه خطباً يخطبها داود عليه السلام، ويخاطب بها ربه سبحانه عند دخوله الكنيسة، وجملته مائة وخمسون خطبة، كل خطبة تسمى مزموراً بفتح الميم الأولى وسكون الزاي وضم الميم الثاينة وآخره راء، ففي بعض هذه الخطب يشكو داود على ربه من أعدائه ويستنصره عليهم، وفي بعضها يحمد الله ويمجده ويثني عليه بسبب ما وقع من النصر عليهم والغلبة لهم، وكان عند الخطبة يضرب بالقيثارة، وهي آلة من آلات الملاهي‏.‏ وقد ذكر السيوطي في الدرّ المنثور ها هنا روايات عن جماعة من السلف يذكرون ألفاظاً وقفوا عليها في الزبور ليس لها كثير فائدة، فقد أغنى عنها وعن غيرها ما اشتمل عليه القرآن من المواعظ والزواجر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 60‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ‏(‏56‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ‏(‏57‏)‏ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏58‏)‏ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ‏(‏59‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مّن دُونِهِ‏}‏ هذا ردّ على طائفة من المشركين كانوا يعبدون تماثيل على أنها صور الملائكة، وعلى طائفة من أهل الكتاب كانوا يقولون بإلهية عيسى ومريم وعزير، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم‏:‏ ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله؛ وقيل‏:‏ أراد ب ‏{‏الذين زعمتم‏}‏ نفراً من الجن عندهم ناس من العرب، وإنما خصصت الآية بمن ذكرنا لقوله‏:‏ ‏{‏يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة‏}‏، فإن هذا لا يليق بالجمادات ‏{‏فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا يستطيعون ذلك، والمعبود الحق هو الذي يقدر على كشف الضرّ، وعلى تحويله من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، فوجب القطع بأن هذه التي تزعمونها آلهة ليست بآلهة، ثم إنه سبحانه أكد عدم اقتدارهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله في جلب المنافع ودفع المضارّ، فقال‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة‏}‏ ف ‏{‏أولئك‏}‏ مبتدأ ‏{‏والذين يدعون‏}‏ صفته، وضمير الصلة محذوف أي‏:‏ يدعونهم، وخبر المبتدأ‏:‏ ‏{‏يبتغون إلى ربهم الوسيلة‏}‏، ويجوز أن يكون ‏{‏الذين يدعون‏}‏ خبر المبتدأ أي‏:‏ الذين يدعون عباده إلى عبادتهم، ويكون ‏{‏يبتغون‏}‏ في محل نصب على الحال‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏(‏تدعون‏)‏ بالفوقية على الخطاب‏.‏ وقرأ الباقون بالتحتية على الخبر؛ ولا خلاف في ‏{‏يبتغون‏}‏ أنه بالتحتية‏.‏ و‏{‏الوسيلة‏}‏‏:‏ القربة بالطاعة والعبادة أي‏:‏ يتضرّعون إلى الله في طلب ما يقربهم إلى ربهم، والضمير في ربهم يعود إلى العابدين أو المعبودين ‏{‏أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏ مبتدأ وخبر‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى أيهم أقرب بالوسيلة إلى الله أي‏:‏ يتقرّب إليه بالعمل الصالح، ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير في ‏{‏يبتغون‏}‏ أي‏:‏ يبتغي من هو أقرب إليه تعالى الوسيلة، فكيف بمن دونه‏؟‏ وقيل‏:‏ إن يبتغون مضمن معنى يحرصون أي‏:‏ يحرصون أيهم أقرب إليه سبحانه بالطاعة والعبادة ‏{‏وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ‏}‏ كما يرجوها غيرهم ‏{‏ويخافون عَذَابَهُ‏}‏ كما يخافه غيرهم ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏ تعليل قوله ‏{‏يخافون عذابه‏}‏ أي‏:‏ إن عذابه سبحانه حقيق بأن يحذره العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم‏.‏ ثم بيّن سبحانه مآل الدنيا وأهلها فقال‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة‏}‏ «إن» نافية، و«من» للاستغراق أي‏:‏ ما من قرية، أيّ قرية كانت من قرى الكفار‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي ما من أهل قرية إلاّ سيهلكون إما بموت وإما بعذاب يستأصلهم، فالمراد بالقرية‏:‏ أهلها، وإنما قيل‏:‏ ‏{‏قبل يوم القيامة‏}‏ لأن الإهلاك يوم القيامة غير مختص بالقرى الكافرة، بل يعم كل قرية لانقضاء عمر الدنيا؛ وقيل‏:‏ الإهلاك للصالحة والتعذيب للطالحة، والأوّل أولى لقوله‏:‏

‏{‏وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 59‏]‏‏.‏ ‏{‏كَانَ ذَلِكَ‏}‏ المذكور من الإهلاك، والتعذيب ‏{‏فِى الكتاب‏}‏ أي‏:‏ اللوح المحفوظ ‏{‏مَسْطُورًا‏}‏ أي‏:‏ مكتوباً، والسطر الخط وهو في الأصل مصدر، والسطر بالتحريك مثله‏.‏ قال جرير‏:‏

من شاء بايعته مالي وخلعته *** ما يكمل التيم في ديوانهم سطرا

والخلفة بضم الخاء‏:‏ خيار المال، والسطر‏:‏ جمع أسطار، وجمع السطر بالسكون أسطر‏.‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالأيات وَلاَ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي عنهم جبال مكة، فأتاه جبريل فقال‏:‏ إن شئت كان ما سأل قومك، ولكنهم إن لم يؤمنوا بها يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم، فأنزل الله هذه الآية‏.‏ والمعنى‏:‏ وما منعنا من إرسال الآيات التي سألوها إلاّ تكذيب الأوّلين، فإن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ولم يمهلوا كما هو سنّة الله سبحانه في عباده، فالمنع مستعار للترك، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأشياء، أي‏:‏ ما تركنا إرسالها لشيء من الأشياء إلاّ تكذيب الأوّلين، فإن كذب بها هؤلاء كما كذب بها أولئك لاشتراكهم في الكفر والعناد حلّ بهم ما حلّ بهم، و«أن» الأولى في محل نصب وبإيقاع المنع عليها، و«أن» الثانية في محل رفع، والباء في ‏{‏بالآيات‏}‏ زائدة‏.‏ والحاصل‏:‏ أن المانع من إرسال الآيات التي اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكلي وهو الاستئصال، وقد عزمنا على أن نؤخر أمر من بعث إليهم محمد إلى يوم القيامة؛ وقيل‏:‏ معنى الآية‏:‏ إن هؤلاء الكفار من قريش ونحوهم مقلدون لآبائهم فلا يؤمنون ألبتة كما لم يؤمن أولئك، فيكون إرسال الآيات ضائعاً، ثم إنه سبحانه استشهد على ما ذكر بقصة صالح وناقته، فإنهم لما اقترحوا عليه ما اقترحوا من الناقة وصفتها التي قد بينت في محل آخر، وأعطاهم الله ما اقترحوا فلم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب‏.‏ وإنما خصّ قوم صالح بالاستشهاد، لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من قريش وأمثالهم يبصرها صادرهم وواردهم فقال‏:‏ ‏{‏وآتينا ثمود الناقة مبصرة‏}‏ أي‏:‏ ذات إبصار يدركها الناس بأبصارهم كقوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا آية النهار مبصرة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏ أو أسند إليها حال من يشاهدها مجازاً، أو أنها جعلتهم ذوي إبصار، من أبصره جعله بصيراً‏.‏ وقرئ على صيغة المفعول‏.‏ وقرئ بفتح الميم والصاد وانتصابها على الحال‏.‏ وقرئ برفعها على أنها خبر مبتدأ محذوف، والجملة معطوفة على محذوف يقتضيه سياق الكلام أي‏:‏ فكذبوها وآتينا ثمود الناقة، ومعنى ‏{‏فَظَلَمُواْ بِهَا‏}‏ فظلموا بتكذيبها أو على تضمين ظلموا معنى جحدوا أو كفروا أي‏:‏ فجحدوا بها أو كفروا بها ظالمين ولم يكتفوا بمجرد الكفر أو الجحد ‏{‏وَمَا نُرْسِلُ بالأيات إِلاَّ تَخْوِيفًا‏}‏ اختلف في تفسير ‏{‏بالآيات‏}‏ على وجوه‏:‏ الأوّل‏:‏ أن المراد بها العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفاً للمكذبين؛ الثاني‏:‏ أنها آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي؛ الثالث‏:‏ تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى شيب، ليعتبر الإنسان بتقلب أحواله فيخاف عاقبة أمره؛ الرابع آيات القرآن، الخامس‏:‏ الموت الذريع، والمناسب للمقام أن تفسر الآيات المذكورة بالآيات المقترحة، أي‏:‏ لا نرسل الآيات المقترحة إلا تخويفاً من نزول العذاب، فإن لم يخافوا وقع عليهم‏.‏

والجملة مستأنفة لا محل لها، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير ظلموا بها أي‏:‏ فظلموا بها، ولم يخافوا، والحال أنّ ما نرسل بالآيات التي هي من جملتها إلاّ تخويفاً‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وما نرسل بالآيات المقترحة إلاّ تخويفاً من نزول العذاب العاجل‏.‏ ولما ذكر سبحانه الامتناع من إرسال الآيات المقترحة على رسوله للصارف المذكور، قوي قلبه بوعد النصر والغلبة فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس‏}‏ الظرف متعلق بمحذوف، أي‏:‏ اذكر إذ قلنا لك، أي‏:‏ أنهم في قبضته وتحت قدرته، فلا سبيل لهم إلى الخروج مما يريده بهم لإحاطته لهم بعلمه وقدرته، وقيل‏:‏ المراد بالناس‏:‏ أهل مكة، وإحاطته بهم إهلاكه إياههم أي‏:‏ إن الله سيهلكهم، وعبر بالماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، وذلك كما وقع يوم بدر ويوم الفتح، وقيل‏:‏ المراد أنه سبحانه عصمه من الناس أن يقتلوه حتى يبلّغ رسالة ربه ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ‏}‏ لما بين سبحانه أن إنزال الآيات يتضمن التخويف ضمّ إليه ذكر آية الإسراء، وهي المذكورة في صدر السورة، وسماها رؤيا لأنها وقعت بالليل، أو لأن الكفرة قالوا لعلها رؤيا، وقد قدّمنا في صدر السورة وجهاً آخر في تفسير هذه الرؤيا، وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسري به، وقيل‏:‏ كانت رؤيا نوم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنه يدخل مكة فافتتن المسلمون لذلك، فلما فتح الله مكة نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ وقد تعقب هذا بأن هذه الآية مكية، والرؤيا المذكورة كانت بالمدينة، وقيل‏:‏ إن هذه الرؤيا المذكورة في هذه الآية هي أنه رأى بني مروان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، فقيل‏:‏ إنما هي الدنيا أعطوها فسرّي عنه، وفيه ضعف، فإنه لا فتنة للناس في هذه الرؤيا إلاّ أن يراد بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ويراد بالفتنة ما حصل من المساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يحمل على أنه قد كان أخبر الناس بها فافتتنوا، وقيل‏:‏ إن الله سبحانه أراه في المنام مصارع قريش حتى قال‏:‏ «والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم»، وهو يومئ إلى الأرض ويقول‏:‏ «هذا مصرع فلان، هذا مصرع فلان» فلما سمع قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية‏.‏

‏{‏والشجرة الملعونة فِى القرءان‏}‏ عطف على الرؤيا، قيل‏:‏ وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير‏:‏ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلاّ فتنة للناس‏.‏ قال جمهور المفسرين‏:‏ وهي شجرة الزقوم، والمراد بلعنها لعن آكلها كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 43- 44‏]‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إن العرب تقول‏:‏ لكل طعام مكروه‏:‏ ملعون، ومعنى الفتنة فيها‏:‏ أن أبا جهل وغيره قالوا‏:‏ زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر، ثم يقول‏:‏ ينبت فيها الشجر، فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وروي أن أبا جهل أمر جارية فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه‏:‏ تزقموا‏.‏ وقال ابن الزبعري‏:‏ كثر الله من الزقوم في داركم، فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن، وقيل‏:‏ إن الشجرة الملعونة‏:‏ هي الشجرة التي تلتوي على الشجر فتقتلها، وهي شجرة الكشوث؛ وقيل‏:‏ هي الشيطان؛ وقيل‏:‏ اليهود؛ وقيل‏:‏ بنو أمية ‏{‏وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا‏}‏ أي‏:‏ نخوّفهم بالآيات فما يزيدهم التخويف إلاّ طغياناً متجاوزاً للحد، متمادياً غاية التمادي، فما يفيدهم إرسال الآيات إلاّ الزيادة في الكفر، فعند ذلك نفعل بهم ما فعلناه بمن قبلهم من الكفار، وهو عذاب الاستئصال، ولكنا قد قضينا بتأخير العقوبة‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبخاري، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً‏}‏ قال‏:‏ كان نفر من الإنس يعبدون نفراً من الجن فأسلم النفر من الجنّ وتمسك الإنسيون بعبادتهم، فأنزل الله ‏{‏أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة‏}‏ كلاهما، يعني‏:‏ الفعلين بالياء التحتية، وروي نحو هذا عن ابن مسعود من طرق أخرى‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ كان أهل الشرك يعبدون الملائكة والمسيح وعزيراً‏.‏ وروي عنه من وجه آخر بلفظ عيسى وأمه وعزير‏.‏ وروي عنه أيضاً من وجه آخر بلفظ هم‏:‏ عيسى وعزير، والشمس والقمر‏.‏ وأخرج الترمذي، وابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ سلوا الله لي الوسيلة، قالوا وما الوسيلة‏؟‏ قال القرب من الله، ثم قرأ ‏{‏يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏ ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي في قوله‏:‏ ‏{‏كَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا‏}‏ قال‏:‏ في اللوح المحفوظ‏.‏ وأخرج أحمد، والنسائي، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال‏:‏ «سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا، فقيل له‏:‏ إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم، قال‏:‏ ‏"‏ لا بل أستأني بهم ‏"‏، فأنزل الله ‏{‏وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالايات‏}‏ ‏"‏ الآية‏.‏

وأخرج أحمد، والبيهقي من طريق أخرى عنه نحوه‏.‏ وأخرج البيهقي في الدلائل عن الربيع بن أنس قال‏:‏ قال الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيّون‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم، فإن عصيتم هلكتم»، فقالوا‏:‏ لا نريدها‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس ‏{‏وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفًا‏}‏ قال‏:‏ الموت‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد في الزهد، وابن جرير، وابن المنذر عن الحسن قال‏:‏ هو الموت الذريع‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس‏}‏ قال‏:‏ عصمك من الناس‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال‏:‏ فهم في قبضته‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وأحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرءيا‏}‏ الآية قال‏:‏ هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس، وليست برؤيا منام ‏{‏والشجرة الملعونة فِى القرءان‏}‏ قال‏:‏ هي شجرة الزقوم‏.‏ وأخرج أبو سعيد، وأبو يعلى، وابن عساكر عن أم هانئ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسري به أصبح يحدّث نفراً من قريش وهم يستهزئون به، فطلبوا منه آية فوصف لهم بيت المقدس، وذكر لهم قصة العير، فقال الوليد بن المغيرة‏:‏ هذا ساحر، فأنزل الله إليه ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرءيا‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال‏:‏ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكاً حتى مات‏.‏ فأنزل الله ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ‏}‏‏.‏ قال ابن كثير بعد أن ساق إسناده‏:‏ وهذا السند ضعيف جداً‏.‏ وذكر من جملة رجال السند محمد بن الحسن بن زبالة وهو متروك وشيخه عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد ضعيف جداً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة، فأنزل الله ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ والشجرة الملعونة‏}‏» يعني‏:‏ الحكم وولده‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء»، واهتمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، فأنزل الله الآية‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن عليّ نحوه مرفوعاً وهو مرسل‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر عن سعيد بن المسيب نحوه وهو مرسل‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدّك‏:‏ «إنكم الشجرة الملعونة في القرآن» وفي هذا نكارة، لقولها‏:‏ يقول لأبيك وجدّك، ولعل جدّ مروان لم يدرك زمن النبوّة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أنه دخل مكة هو وأصحابه، وهو يومئذٍ بالمدينة فسار إلى مكة قبل الأجل فردّه المشركون، فقال ناس‏:‏ قد ردّ، وقد كان حدّثنا أنه سيدخلها، فكانت رجعته فتنتهم‏.‏ وقد تعارضت هذه الأسباب، ولم يمكن الجمع بينها فالواجب المصير إلى الترجيح، والراجح كثرة وصحة هو كون سبب نزول هذه الآية قصة الإسراء فيتعين ذلك‏.‏ وقد حكى ابن كثير إجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك في الرؤيا، وفي تفسير الشجرة وأنها شجرة الزقوم، فلا اعتبار بغيرهم معهم‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال‏:‏ قال أبو جهل لما ذكر رسول الله شجرة الزقوم تخويفاً لهم‏:‏ يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد‏؟‏ قالوا لا، قال‏:‏ عجوة يثرب بالزبد‏.‏ والله لئن استمكنا منها لنزقمنها تزقماً‏.‏ قال الله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 43 44‏]‏، وأنزل ‏{‏والشجرة الملعونة فِى القرءان‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه في قوله‏:‏ ‏{‏والشجرة الملعونة‏}‏ قال‏:‏ ملعونة لأنه قال‏:‏ ‏{‏طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشياطين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 65‏]‏‏.‏ والشياطين ملعونون‏.‏